يقدم “ستيفن كنزر” مقاربة مستقبلية للسياسة الاميركية في منطقة الشرق الاوسط، في كتابه “العودة الى الصفر، ايران، تركيا ومستقبل اميركا” الصادر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر بلبنان، تقوم على ، على حساب العلاقات الاستراتيجية التقليدية التي اعتمدتها اميركا من خلال الحلف الذي جمعها مع اسرائيل من جهة والمملكة العربية السعودية من جهة اخرى.
يستعيد الكاتب صفحات من تاريخ الشرق الاوسط تبدأ مطلع القرن العشرين وتتناول التطورات السياسية التي شهدتها كل من ايران وتركيا، ليعود الى نهاية القرن ويقدم قراءة للشرق الاوسط والنظرة الاميركية الى احداثه، هي مدعاة للنقاش الفعلي حول ثوابت السياسة الاميركية ومتغيراتها.
يشير الكاتب الى الثورة الديموقراطية التي شهدتها ايران في العام 1906 حيث اجبر مظفر الدين شاه على تقديم تنازلات دستورية، ليعود محمد علي شاه عام 1908 ليرتد عليها ويسحق الثورة التي قامت دفاعا عن تلك الاصلاحات الدستورية. في موازاة إيران شهدت تركيا أيضا حركة تمرد أجبرت السلطان عبد الحميد على إجراء إصلاحات عرفت بـ”التنظيمات” أواسط القرن التاسع عشر وتضمنت لائحة من الحقوق المدنية تشمل جميع المواطنين بصرف النظر عن دينهم أو هويتهم الاجتماعية. هذه التحولات أخذت بُعدا مع بروز حركة راديكالية بقيادة مصطفى كمال، الذي قاد ثورة ديموقراطية في تركيا مطلع القرن العشرين، اندمجت فيها جمعيات وأحزاب تركية هدفت جميعها إلى إطاحة الحكم الديكتاتوري للسلاطين العثمانيين.
بعد قرن من سعي إيران وتركيا إلى تحقيق الديموقراطية، يعود الكاتب ليرى مآل البلدين نهاية القرن العشرين ومطالع القرن الحادي والعشرين، مصراً على أن الدولتين المؤهلتين لقيام الديموقراطية في الشرق الاوسط هما تركيا وإيران. “أضحت تركيا الدولة المسلمة الأكثر ديموقراطية في العالم، وهي منذ عقود عضو في منظمة حلف شمال الاطلسي وعلى علاقة وثيقة بالولايات المتحدة. ولا ينبض القلب الديموقراطي، في حماسة على غرار تركيا إلا في دولة مسلمة واحدة أخرى في الشرق الاوسط، هي إيران.
استجلب انفجار الاحتجاجات في إثر انتخابات 2009 الرئاسية الإيرانية المتنازع عليها قمعا عنيفا، لكن ذلك شكل أيضا تأكيداً مثيرا أن المُثل الديموقراطية تجذّرت عميقا في تلك البلاد. فمن تحت الطبقة السميكة من حكم رجال الدين، يزدهر مجتمع مدني حيّ. وما من جيل في العالم يفهم الديموقراطية أفضل مما يفهمها الشباب الإيراني أو يتمناها بقدر أكبر من الحرارة. وتشكل حميتهم جزءا من جسر القِيم الذي يربط بين إيران والولايات المتحدة ويوفر الأساس لشراكة مستقبلة سليمة”، على ما يشير الكاتب.
المسألة التي يريد الكاتب الوصول اليها تتركز على العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا وإيران (بعد زوال حكم الملالي). يرى أن هذه البلدان الثلاثة تجمعها مصالح استراتيجية مشتركة، فضلا عن القيم المشتركة بين شعوبها، بما يمكن تأسيس “مثلث القوة” الذي سيكون جذابا للقرن الحادي والعشرين.
نقطة الخلل في قراءة الكاتب للاسترتيجية الأميركية اعتباره ان الأساس فيها سعي الولايات المتحدة الى تحقيق الديموقراطية أولا وأساسا، وأن هذه القيم تتصدر المصالح الاميركية. إلا أن استراتيجيا الولايات المتحدة لم تقم يوما على إرساء القيم الديموقراطية، وهذه من الديماغوجيا التي تستخدمها الادارة الاميركية في حروبها ضد الشعوب.
كانت السياسة التي تحكم اميركا هي المحافظة على مصالحها وتأمين حمايتها، وتتركز على الدور المركزي لإسرائيل وحماية هذا الموقع، ثم حماية موارد النفط في المنطقة، وهو الخاضع في معظم لهيمنة الشركات الاميركية والمستند الى حماية عسكرية أميركية مباشرة. لم تتغير هذه الاستراتيجيا مذ باتت الولايات المتحدة القوة الاساس المؤثرة في العالم والمتحكمة في قضايا الشرق الاوسط. أيّ استعادة للسياسات الاميركية في المنطقة تظهر كم ان الولايات المتحدة أسقطت ديموقراطيات وغيّرت حكومات تبعا لمصالحها السياسية.
نقطة اخرى تستحق النقاش في تحليل الكاتب تتصل بتراجع الاعتماد على اسرائيل والمملكة العربية السعودية. من الخطأ الفادح تصور تغيرات في نظرة الولايات المتحدة الى إسرائيل والدو الاستراتيجي في حماية المصالح الاميركية خصوصا والغربية عموما.
يتأكد هذا الموقف كل يوم من خلال التأييد السياسي والعسكري والديبلوماسي لإسرائيل، ورفض كل تسوية للصراع العربي الاسرائيلي يقوم على إعطاء الحد الأدنى من الحقوق للشعب الفلسطيني. هذه السياسة يشترك فيها الديموقراطيون والجمهوريون، بل يتنافس الحزبان في المزايدة على من يدعم اسرائيل اكثر من الاخر.
أما بالنسبة الى السعودية، وعلى رغم ما تركته هجمات سبتمبر عام 2001، التي اشترك فيها سعوديون، فإن السياسة الاميركية حريصة جدا على عدم المس بطبيعة النظام السعودي وعدم تأييد ايّ نوع من الحراك السياسي المتجه نحو حقوق سياسية وأمنية، وهو حرص ينطلق من خزّان النفط الذي تحويه الأرض السعودية والذي يغذي شرايين الاقتصاد الاميركي .