يُعتبر مجلس الأمن الدولي، أحد أهم الأجهزة والمؤسسات التي تتبع الأمم المتحدة، وجزء رئيسي من ترتيبات النظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي لا تزال حركة السياسة العالمية تدور في فلك الأطر المؤسسية وخرائط توزيع القوى التي نجمت عنها، حتى بعد انتهاء الحرب الباردة.
فبرغم التبدُّل الذي طرأ على بنية القوى الدولية، ودخول النظام العالمي في مرحلة سيولة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية؛ إلا أن البنية المؤسسية وغالبية خريطة القوى الموروثة عن مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ظلَّت قائمة.
ولا يُعدُّ مجلس الأمن الدولي بدعًا من ذلك؛ حيث لا تزال الأمم المتحدة بمؤسساتها ووكالاتها المتخصصة، ومنظومة “بريتون وودز” الاقتصادية التي تشمل صندوق النقد والبنك الدوليَّيْن، ومؤسسة التمويل الدولية، واتفاقية “الجات” التي تحوَّلت في التسعينيات الماضية إلى “منظمة التجارة العالمية”؛ لا تزال هي أصل المظلة المؤسسة للنظام العالمي.
ولكن مجلس الأمن كمؤسسة دولية، له أهمية خاصة باعتبار أنه – وفق منطق تأسيسه وليس وفق الأمر الواقع بدقة – هو الهيئة الدولية المُخوَّلة باستخدام القوة المسلحة بموجب البنود الخاصة به في الميثاق التأسيسي للأمم المتحدة – وهي مهمة لم تكن لأية هيئة تابعة للمظلة المؤسسية الدولية السابقة على الأمم المتحدة، وهي عصبة الأمم، وكذلك ليست لأية هيئة دولية أخرى في عصرنا الراهن.
وتختلف صلاحية مجلس الأمن الدولي في ذلك، عن صلاحية الأحلاف العسكرية الإقليمية والدولية التي تأخذ شكلاً مؤسسيًّا، مثل “حلف شمال الأطلنطي” (الناتو)، في استخدام القوة في حلِّ بعض النزاعات؛ حيث إن المجلس هو الهيئة الدولية الوحيدة التي لها شرعية بموجب القانون الدولي بتفويض استخدام القوة في حل النزاعات الإقليمية والدولية، فيها التحالفات والمنظمات الأخرى، لا يمكنها ذلك من دون إذنٍ من مجلس الأمن الدولي إلا فيما يتعلق بحالات رد عدوان مباشر.
وتشمل صلاحيات مجلس الأمن الدولي في هذا المجال، لتشمل الصراعات الأهلية، والأزمات الداخلية في بعض الدول، ولاسيما في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، ضمن عملية توسيع شاملة، طموحة، الأمم المتحدة من صلاحياتها لتشمل حق التدخل في الشؤون الداخلية للدول، تخت مسميات عديدة، مثل الحفاظ على حقوق الإنسان، والتصدي لانتهاكات قواعد الحكم الرشيد، مثل احترام القانون، وسيادته، من جانب بعض الأنظمة الاستبدادية.
ولكن هذا الأمر، نظرت له بعض القوى الدولية على أنه ذريعة أو أداة غربية – الغرب الذي خرج منتصِرًا من الحرب الباردة – للتدخل في الشؤون الداخلية للقوى التي تمثل تهديدًا للنفوذ الغربي، والأنجلوساكسوني على وجه الخصوص، مثل الصين، ثم روسيا بعد عودتها للنهوض مجددًا.
وهناك الكثير من الأمور الإشكالية التي تعترض مجلس الأمن الدولي في سبيل أداء دوره كمؤسسة فوق دولية، تمثل “شرطي العالم” كما كان مقدَّرًا له، وكذلك مصداقية هذا التدخل بشكل عام.
دراسات وابحاث
رؤية حول العلاقة بين الحكم الوطني والمحلي في مرحلة ما بعد الاتفاق وإحلال السلام في اليمن
لقد ظلت مشكلة الخلل القائم في التوزيع العادل للسلطة والثروة بالإضافة إلى الإشكاليات الناتجة عن هيمنة المركز وسيطرة المركزية الإدارية والمالية الشديدة وطبيعة العلاقة بين المركز أو (الحكم الوطني) والمحليات واحدة من أبرز المعضلات والتحديات التي واجهها اليمن سواء لمرحلة ما قبل قيام ثورة الـ26 سبتمبر عام 1962 أو ما تلاها أو حتى بعد تحقيق الوحدة اليمنية وقيام الجمهورية اليمنية في 22 مايو 1990.
وحيث أدت تلك التحديات إلى نشوء الصراعات وفرز حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني وإيجاد خلل في منظومات الحكم القائمة ووجود حالة من السخط وعدم الرضا الشعبي والتي تفاقمت بازدياد تراكماتها ووصلت إلى حد الصراع الدموي ودورات العنف وبروز التكتلات والتعصبات المناطقية والجهوية والتي وصلت ذروتها إلى درجة المطالبة بالانفصال في بعض الأجزاء اليمنية (المحافظات الجنوبية).
ورغم كل المحاولات التي بذلت للتخفيف من حدة الصراعات المناطقية وإعطاء مجال لتشجيع المحليات في ممارسة دور ما في المجال الإداري والتنموي من خلال ترتيب المجالس المحلية أو السلطات المحلية وهيمنة هذه القضية على مخرجات الحوار الوطني التي تم مناقشتها حول إعادة هيكلة الدولة وفكرة الأقاليم والتوزيع العادل للسلطة والثروة والحكم الرشيد؛ إلا أن تلك المحاولات ظلت مجرد أفكار لم تجد طريقها للتنفيذ في الواقع العملي إن لم تكن قد تعطلت نتيجة ما شهده اليمن من أحداث وتطورات أعقبت الانتهاء من مؤتمر الحوار الذي كان المؤمل فيه أن يكون مدخلًا لتحقيق الوفاق الوطني والتصالح والتسامح والشروع في بناء الدولة الوطنية الحديثة؛ إلا أن الوفاق والتصالح قد غاب عن طاولة مؤتمر الحوار وخرج اليمنيون منه بمختلف مكوناتهم وتوجهاتهم وهم أكثر فرقة وانقسامًا ووصل الأمر إلى حدوث المواجهات العسكرية الدامية وازدياد حدة التمترس وراء المواقف المتباينة والتوجهات المتضادة في ظل غياب مشروع وطني جامع.
وحيث أن المؤمل أن تؤدي جهود الأمم المتحدة ومؤازرة المجتمع الدولي إلى جمع الفرقاء اليمنيين مرة أخرى على طاولة حوار يمكن أن تؤدي إلى الخروج من المأزق الراهن وتحقيق الاتفاق الذي يضمن تحقيق السلام وبناء الدولة اليمنية المنشودة، فإن من أبرز مهام المرحلة القادمة سواء المرحلة الانتقالية أو ما يليها وإيجاد الحلول الموضوعية والمنطقية للعلاقة التي ينبغي أن تقوم بين السلطة الوطنية (المركزية) والسلطات المحلية في الأقاليم أو المحافظات أو الوحدات الإدارية عمومًا وبحسب ما يتم الاتفاق عليه ويخرج به الدستور الجديد وبما يتواءم مع الواقع اليمني ويلبي تطلعات الشعب اليمني واحتياجاته الراهنة والمستقبلية.
وفي تصوري أن حل موضوع التوزيع العادل للسلطة والثروة يتطلب رؤية واقعية تضمن ذلك من خلال توسيع نطاق المشاركة في صنع القرار الوطني وإيجاد مخارج عادلة لموضوع الثروة السيادية والعائدات المحلية وإيجاد توازن منطقي بين دور ومهام السلطة المركزية والسلطات المحلية وتوفير الضمانات التي تكفل عدم وجود مراكز نفوذ أو هيمنة في الإطار المحلي الجديد والناشئ بموجب الاتفاق ومخرجات الحوار القادم الذي ينبغي الإعداد له جيدًا وبحيث يتجاوز السلبيات والثغرات التي وجدت في الإعداد لمؤتمر الحوار الوطني سواء من حيث مستوى وعدالة التمثيل والمشاركة والاستيعاب للقوى والفعاليات السياسية والاجتماعية أو من حيث أولويات القضايا المدرجة وأهميتها والاحتياجات الفعلية إلى إغنائها بمناقشات واسعة يتم فيها إشراك أكبر قدر ممكن من القوى السياسية والفئات الاجتماعية.
——–
تجدون المادة كاملة مرفقة في ملف بي دي إف
الإسلام و سياسة روسيا الخارجية «الماضي.. والحاضر»
تناقش هذه الورقة تاريخ الإسلام والمسلمين بروسيا وكيف كانت أحوالهم تحت ظل النظم الحاكمة على مر التاريخ الروسي بداية من القياصرة وصولًا ليومنا هذا، كما تتناول ملامح من السياسة الخارجية الروسة تجاه العالم الإسلامي بالسنوات الأخيرة.
نظرة تاريخية:
يعتبر الإسلام أقدم من المسيحية في روسيا، فقد دخل الإسلام روسيا عام 922م كما أشار الأستاذ أسد الله في كتابه “موسكو المسلمة ماضيها وحاضرها”، ذلك بعد إرسال الخليفة العباسي المقتدر بالله بعثة من العلماء بناءًا على طلب وفد جاء من بلغار الفولجا بأن يرسل الخليفة معهم علماء يعلمون الإسلام للمجتمعات المجاورة لهم من السلاف وغيرهم من شعوب تقيم حول نهر الفولجا، وكان أحمد بن فضلان ضمن البعثة وقد ذكر إبن فضلان أن الملك ألمش بن يلطور ملك البلغار هو من طلب من الخليفة إرسال تلك البعثة.
ورأيٌ آخر يسرده المؤرخ التتري المسلم شهاب الدين مرجاني أن البلغار اعتنقوا الإسلام قبل العام 922 وبالتحديد في عهد الخليفة المأمون (813-833) وعهد الخليفة الواثق (842-847)، ولكن الرأي الراجح والمعروف عند غالبية المؤرخين أن الإسلام قد دخل روسيا عام 922.
وعندما أراد حاكم روسيا فلاديمير الأول (960-1050) أن يعتنق دينًا سامويًا اختار المسيحية، ذلك بالطبع بعد أن طلب من البولغار إرسال رجال دين كي يخبروه عن الإسلام وتعاليمه، كما طلب ذلك من التبشريين اليهود والمسيحيين الكاثوليك والأرثوذكس، وقد اعتنق المسيحية الأرثوذكية وكان سبب تفضيله للمسيحية عن الإسلام كما ذكره فريد شاه في كتابه هو تحريم الإسلام للخمر ولحم الخنزير، حيث قال فلاديمير لرسل البلغار المسلمين: “أن روسيا معتادة على الخمر ولا تحيا من دونه”، وبالتالي دخلت المسيحية روسيا سنة 982م.
وقامت علاقات جيدة بين شعوب تلك الأراضي التي اعتنقت الإسلام حول نهر الفولغا بلغاريا والتي تعرف الآن بروسيا الأوروبية وبين شعوب المنطقة المحيطة حيث تشاركوا بالتجارة الدولية بين الشرق والغرب وبينهم وبين الشعوب العربية والفارسية.
ومع دخول بركة خان ملك التتار عام 1245 الإسلام وأصبح نهر الفولغا على طول 2000كم نهرًا إسلاميًا ووصل الإسلام إلى سيبيريا ومناطق من فنلندا، وذكرت كتب التاريخ الإسلامي عن عظمة الملك بركة خان من حيث حسن إسلامه ومعاملته، وكانت إمارة موسكو وكييف آنذاك يدفعان الجزية للمسلمين التتار، كما لا يُعَيَّن حكامهم إلا بموافقة الحاكم المسلم بقازان.
ووصف الروس لحقبة حكم التتار أنها غزو المغول لبلادهم وقسموا روسيا لدويلات شبه مستقلة وأنهم محتلين أقاموا دولتهم بحوض الفولغا وفرضوا “إتاوة” على الشعوب الروسية غير المسلمة، وأطلق التتار على دولتهم الجديدة إسم “الأورطة الذهبية” أو “القبلية الذهبية” كما يطلق عليها الروس.
حكم التتار المسلمين جميع الأقاليم والسهول الروسية لمدة 240 عامًا وخلال تلك الفترة قامت عدة معارك بين التتار والروس، فحتى القرن السادس عشر كانت قازان وأتراخان وسيبيريا والقرم تحت الحكم الإسامي، وكانت اللغة العربية مستخدمة على نطاق واسع في العلوم والآداب، إلى أن جاء إيفان الثالث سنة 1480م وأعلن استقلال موسكو وأعلن الحرب على المسلمين، واستمرت الحرب بعهد إبنه إيفان الرابع والذي أسقط قازان سنة 1552م واتبع سياسات الإبادة ضد المسلمين، واستمرت تلك السياسات من سيطرة القياصرة وتدهور أحوال المسلمين بل تحول بعض المسلمين إلى النصرانية مجبرين وعاش المسلمين بالطبع ويلات وظلم وطغيان ومعاملة مُهينة حيث هدمت مساجدهم ومنعوا من تأدية عبادتهم وتم تشريدهم ونفيهم.
يُمكن تفسير ذلك العداء للمسلمين داخل روسيا بأن أكثر المسلمين بروسيا ترجع أصولهم إلى الترك، وفي ذلك الوقت قد فتح العثمانيين القسطنطينية “اسطنبول حاليًا” على يد السلطان محمد الفاتح عام 1453م، وتحولت من مدينة ومركز للمسيحية الأرثوذكسية إلى مدينة وعاصمة إسلامية، وبعد أن سيطر العثمانيين عليها، انتقل مركز الكنيسة الأرثوذكسية إلى موسكو التي قادت حرب الانتقام للعالم المسيحي من العثمانيين والمسلمين على حد سواء.
إلى أن جاءت كاثرين الثانية أو كاثرين العظيمة (1762-1796) وقدمت بعض التنازلات لكسب المسلمين بالدولة ومشاركتهم لخدمة مصالح الدولة القيصرية حيث أعلنت مرسوم نصَّ على التسامح بين جميع الأديان، كما أسست جمعية رجال الدين المسلمين في أوربينبرغ عام 1788. لكن تلك الإجراءات لن تنفي تاريخ كاثرين الملىء بالعداء والكره للإسلام فقد كانت حروبها ضد الدولة العثمانية تحت راية القضاء على العدو الأول للمسيحية وهو الإسلام، حتى وإن كان الهدف الحقيقي هو سيطرة روسيا على المضائق التي تؤدي للمياة الدافئة بالبحر الأسود والمتوسط.
وخلال الفترة 1783-1755 دمر الروس أكثر من 481 مسجدًا في قازان علاوة على شن حملات اضطهادية ضد المسلمين بالقوقاز وسيبيريا، كما تم تهميش وإهمال المدن الإسلامية عن عمد، وعام 1782 سقطت أخر مدن القوقاز المسلم تحت سيطرة روسيا القيصرية من خلال هزائم متوالية للعثمانيين، كما تم إخضاع أذريبيجان وداغستان وأرمينيا كما خضعت الشيشان عام 1881 بعد حملة وحشية قام بها القياصرة للقضاء على حركات المقاومة والجهاد والتي دُعمت من العثمانيين سياسيا ودينيًا، وتمثلت المقاومة في قبائل الشركس والشيشان وعلماء القوقاز وتركستان، وبعد خضوع الشيشان عمل الروس على إذلال هذا الشعب الأبي بفرض التنصير بالقوة وتخريب الاقتصاد والزراعة وتهجير السكان.
ومع سقوط القياصرة بقيام الثورة البلشيفية الشيوعية 1917م خدع لينين المسلمين بشعارات كاذبة في خطاباته بأنه سيكون ناصرًا لهم بعد الظلم الذي تعرضوا له من قِبل القياصرة، وأن حرية عقائدهم ونظمهم وعاداتهم ومنظماتهم وثقافتهم مكفولة لهم لا يطغى عليها ظاغ ولا يعتدي عليها معتد، تلك الشعارات جعلت المسلمين يحركوا الثورة وعملوا على نجاحها، لكن بدلًا من أن يحقق لينين ما وعده للمسلمين بدأ الشيوعيين باحتلال الأراضي الإسلامية بالقوقاز وآسيا الوسطى وبدأوا بسن القوانين التي تُحظر الأديان وتنشر الإلحاد خاصة بالمجتمعات المسلمة، وتم اعتقال وقتل المسلمين المعادين للشيوعية، كما تم فرض اللغة الروسية كلغة ثانية بتلك البلاد ومُنعت الدراسة الدينية أو تدريس اللغة العربية؛ لكن المسلمون بالطبع لم يمكثوا صامتين أمام تلك السياسات شكلوا الحركات التحررية بتركستان والشيشان وغيرها والذي قابله إبادة جماعية من قِبل السوفيت، كما عمل المسلمون مدارس سرية بالبيوت لتعليم أولادهم القرآن والسنة أخرجت هذه المدارس أجيالًا من حفظة القرآن وعارفين بمبادىء الإسلام وهم من قادوا الصحوة الإسلامية بجمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز بعد تفكك الاتحاد السوفيتى.
ولم تستطع روسيا سواء القيصرية أو البلشيفية بالقضاء على الإسلام وأهله بروسيا، ومع قيام روسيا الاتحادية مثلت الاقاليم المسلمة بالداخل الروسي ست جمهوريات وهم (تتارستان- الشيشان- قبارووا- بشقردز- داغستان- أوستيا الشمالية)، كما يوجد المسلمون في مناطق وجمهوريات روسية أخري ويشكل المسلمون بها أغلبية، كما تعتبر موسكو على قمة العواصم الأوربية من حيث عدد المسلمين المتواجدين بها.
وبالسنوات الأخيرة وخاصة مع وصول بوتين كرئيس لروسيا بدأت محاولات لإظهار احترام حقوق الأقلية المسلمة محاولًا تهدئة وكسب الأحزاب والشرائح الإسلامية بروسيا، وأوصل روسيا إلى منظمة التعاون الإسلامي بعام 2003 برغم المعارضة التي واجهها بوتين بالداخل الروسي سواء من الجهات الأمنية أو من جماعات مصالح ولاعبين سياسيين، وأعقبها تصريحات عدة من النظام الروسي باحترام المسلمين داخل روسيا، فيعتبر بوتين أول رئيس روسي يعلن أن روسيا بلد متنوع الثقافات فهو بلد مسيحي ومسلم وللمسلمين الحق بالشعور بأنهم ينتمون إلى العالم الإسلامي وأن روسيا كانت ومازالت حليفًا جيوسياسيًا للعالم الإسلامي.
أما بالنسبة للإسلام في السياسة الخارجية الروسية، فمنذ عهد سيطرة الشيوعين كانت موسكو تنظر للعالم الإسلامى على حدودها كخطر يهدد أمن الدولة السوفيتية وترابط نسيجها، والمصالح الروسية تقف على طرفي النقيض مع الإشتراكية المتنامية التي تغذيها القومية والسيادة الجغرافية والتى يتم تحريكها ودفعها أحياناً من قبل الإسلاميين المتشددين المتطرفين مما يؤدي إلى إضعاف قوة الأقلية الروسية في الجمهوريات المستقلة، ومازال هذا التصور بوجود خطر قادم من الجنوب يهدد دائما المصالح الروسية ووجودها، أو يتنامى خطر ازدياد نفوذ الأصولية الإسلامية في المنطقة، لذلك تم التأكيد على ضرورة الأمن في الحدود الجنوبية، وتم إرسال قوات روسية إلى المنطقة بهذا الغرض بعد عودة الإستقرار إلى المنطقة أوصى أنصار الرؤية الأوروآسيوية، بأنه لا يجب معارضة الإسلام بشكل كامل، بل يجب الحفاظ على وضعه في المنطقة والتحكم فيه والتقليل من تسلله ونفوذه بقدر الإمكان، ومن ناحية أخرى سادت بين أصحاب التوجه نحو الغرب نظرية مفاداها أن الغرب نظراً للمصالح المشتركة مع روسيا فسوف يساعد روسيا وغيرها بالقوة لتحجيم الخطر الإسلامى نيابة عن العالم الغربى، وبناءاً على ذلك فإن روسيا تتبع مايسمى “بنظرية مونروسكي الجديدة” والتى تنص على إتخاذ ما يسمى بالتهديد الإسلامي كذريعة لشرعية وأحقية التدخل بكل السبل في نفوذها السابق، والسياسة الخارجية الروسية تعمل للتأكيد على تحقيق هدف رئيسي وهو ألا يصل الإسلام السياسى إلى درجة من القوة والانتشار بحيث يعرض مصالحها للخطر أو يوجه ضربة ساحقة للنفوذ الروسي.
وبالتالي عملت روسيا على التواجد المكثف سياسيًا وعسكريًا في الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفيتي السابق، فمنطقة القوقاز منطقة مهمة جيوسياسيًا بالاستراتيجية الأمنية الروسية، وترى روسيا في التخلي عن جمهوريات شمال القوقاز هو تخلي عن القوقاز بأكمله، وابتعاد السياسة الروسية عن القوقاز يعنى إبتعادها عن مناطق بالغة الأهمية في الصراع الدولى على رأسها منطقة الشرق الأوسط خاصة إيران وتركيا وآسيا الوسطى والعالم العربى، وتُرجع تواجدها العسكري والسياسي إلى التخوف من سيطرة التطرف الفكرى في منطقة شمال القوقاز، الأمر الذى قد يؤدى إلى إقامة إمارة القوقاز الإسلامية بشكل رسمى، وهو ما يهدد الحدود الجنوبية لروسيا .
كما أنه إذا استقلت دول شمال القوقاز سيؤدى إلى تغيُّر السياسة العرقية في تلك المنطقة بعد هجرة ونزوح العرقيات الأخرى غير المسلمة، وظهور مشكلة تأمين وحماية ما يزيد على مليونين ونصف المليون روسى يقطنون منطقة القوقاز، فضلا عن أن الحدود الروسية ستتقلص بنحو 400 كم2 .
ففي ظل هذا الواقع يصبح الحديث عن روسيا في ظل العولمة أو بدونها بالنسبة للعالم الإسلامى هو صيرورتها وكيانها الأوروآسيوى، فأسيا الوسطى والقوقاز ما هو إلا إمتداد طبيعى وتاريخى وثقافي لروسيا، كما أن روسيا إمتداد له بالقدر ذاته، فالظاهرة الإسلامية هى جزء من تاريخ الشعوب الإسلامية من جهة، وجزء من تاريخ الدولة الروسية من جهة أخرى.
و أدّى تدفق المهاجرين المسلمين من آسيا الوسطى والقوقاز إلى نشوء تفسيرات أكثر تحفّظاّ حيال الإسلام في روسيا، من خلال الترويج والإهتمام بالإسلام كمكون أساسي في روسيا سواء على ألسنة القادة أو بوسائل الإعلام الرسمية.
وكما لدى النظام السياسي بروسيا تخوف من الإسلام السياسي، هناك بالمقابل تخوف و قلق من جانب المسلمين في روسيا وجمهورياتها من سياسات الكرملين، فالمسلمين اتّجهوا إلى الإسلام على نحو متزايد بسبب شعورهم بالإحباط من سياسات الكرملين، والتي عجزت حتى الآن عن تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للأقليّة المسلمة في روسيا. والتدين ليس هو المشكلة في صعود القومية الإسلامية، ففي المناطق ذات الكثافة السكانية العالية من التتار، على سبيل المثال بدأ ينمو فيها منذ العام 2012 مستوى التدّين الذي كان منخفضاً لدى هذه المجموعة أي أن هذه المنطقة لم يكن بها نزعة قومية إسلامية من قبل.
وعلى الرغم من أن المسلمين في روسيا هم من أهم المكونات الثقافية الراسخة في تلك البلاد، وعلى الرغم أيضاً من إدراك قياداتها الحالية لهذه الحقيقة، حيث عبر عنها الرئيس بوتن في ماليزيا، عندما أكد على “أن الإرهاب يرتبط بأفراد وليس بالأديان” ولكن كان قوله في سعيه لكسب عضوية منظمة المؤتمر الإسلامى”، إلا أن المسلمين لم يحصلوا على حقوقهم السياسية والثقافية كما ينبغي إلى الآن، فلا توجد استراتيجية صريحة للإدماج السياسي والثقافي للمسلمين داخل روسيا، فما زالت روسيا لم تخط خطوة جدية ملموسة، ويمكن إرجاع السبب لعدة معوقات منها جماعات الضغط والمصالح والتي لا تريد أن يكون للمسلمين الروس دورًا وشأنًا سياسيًا بروسيا.
لكن هذا التخوف من قبل الجانبين له أسبابه وتداعياته فروسيا تتخوف من الإسلام لأسباب غياب المرجعية، مما يجعل القيادة الروسية تواجه مشاكل عدة، إذ أن مختلف الهيئات والمنظمات الإسلامية لا يعترف بعضها ببعض في ضوء إختلاف المذهبية، وبالتالي ليس هناك موقفًا إسلاميًا موحدًا ومنظمًا حتي يتم تقديم مطالبهم بطريقة فعالة ومؤثرة وقابلة للتنفيذ من قبل الحكومة الروسية، المشكلة الثانية الحاكمة باستمرار لمسألة تأجيج النزاع بين المسلمين والسلطات الروسية، هى المعطيات التاريخية التى لا تحركها المجتمعات العقلانية الحديثة، فمثلا الحديث عن صراع الحضارات الذى كتب عنه صموئيل هنتجتون، فالحل لهذه المعضلة هو الحوار.
الإسلام والسياسة الخارجية الروسية بالسنوات الاخيرة
سياسات روسيا تجاه القوقاز وآسيا الوسطى.
بشكل عام فقد استفادت روسيا من دروس الماضى ولم تعد تهتم فقط بالأبعاد العسكرية وأضحت تعطى الأولوية للشراكات الاقتصادية، إنطلاقاً من أن العلاقات الاقتصادية القوية تمثل قاعدة صلبة للتعاون الاستراتيجى الواسع، وحماية النفوذ الروسي في المنطقة، وتركز روسيا في هذا الإطار على الشراكة والاستثمارات المشتركة في قطاع الطاقة ففي عام 2002، تم تأسيس مؤسسة “كازروس جاز” المشتركة بين روسيا وكازخستان، وفي عام 2004، تأسس اتحاد شركات روسي–أوزبكي لاستثمار حقول الغاز الأوزبكية، كما تم توقيع اتفاقية لتوريد الغاز التركماني عبر شركة “غازبورم” الروسية حتى عام 2028، وإتفاق لمد خط غاز جديد من تركمنستان إلى أوروبا عبر الأراضى الروسية نحو بلغاريا واليونان.
كما أن روسيا شريك تجاري مهم لدول المنطقة، وتمثل التجارة معهم أكثر من 60% من إجمالس تجارة كازاخستان، و29%من تجارة أوزباكستان، ونحو 25% من حجم التجارة الخارجية القيرغيزية، ويمثل الاتحاد الجمركي، والمجال الاقتصادي الموحد الذي يضم روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان ومن المرشح أن تنضم إليه قيرغيزستان، نقطة انطلاق مهمة يعدها بوتن نواة الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وهو مشروع طموح يهدف إلى ضم الجمهوريات السوفيتية السابقة في إطار اتحاد اقتصادي على غرار الاتحاد الأوروبي من دون المساس بالإستقلال القومي والسياسي لهذه الجمهوريات. (مع العلم أن روسيا عملت على أن تكون حكومات هذه الجمهوريات المستقلة تابعة لموسكو وتنتهج النظام السياسى ذات الحزب الواحد الشيوعى وبالتالي ربطت روسيا واحتوت تلك الجمهوريات سياسًا واقتصاديًا).
نظرة روسيا لثورات الربيع العربي:
أن الكرملين لم يُعِرْ الربيع العربي الكثير من الاهتمام عندما اندلع لأول مرة، معتبراً أن الشرق الأوسط و”الإسلامية” الروسية قضيتان مختلفتان، لكن مع صعود الإسلام السياسي في معظم دول الربيع العربي إن لم يكن كلها، نظر صنّاع القرار في روسيا إلى التطورات الإقليمية بقدر أكبر من القلق من الحكومات الأميركية والأوروبية الغربية، على الصعيد المحلي، كانت الدولة الروسية تخوض صراعاً مع القوميين من مناطق عدة ذات أغلبية مسلمة على مدى أكثر من عقدين، وفي الوقت نفسه، برزت الأحزاب الإسلامية في الشرق الأوسط كأكبر مستفيد من الربيع العربي، ويتساءل المسؤولون الروس عما يعنيه ذلك بالنسبة إلى علاقتها مع الأقليّة المسلمة في روسيا.
فمثلت هذه الثورات مصدر قلق وترحيب على التوالى لروسيا، كان مصدر القلق وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة في بعض دول الثورات، مع خشية روسيا من انتقال شرارة الثورات إليها، خاصة أن هناك تاريخاً من الصراع الروسي مع جماعات الإسلام السياسي، في الشيشان وأفغانستان وأيضا تعداد المسلمين بها؛ وما جعل البعض كالمفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة يتنبأ من خلال الإحصائيات أن المسلمين سيحكمونها عام 2050، كل هذا يؤدى حتما إلى قلق متزايد وهواجس لدى متخذي القرار وصانعي السياسة الخارجية الروسية، ففي حالة مصر علي سبيل المثال وصعود تيار الإسلام السياسي ممثلا في جماعة الإخوان المسلمين وذراعها السياسية المتمثل في حزب الحرية والعدالة، سبب ذلك مصدر عدم ارتياح وقلق لدوائر صنع القرار في العاصمة الروسية نظراً لما أعدوه من مواقف الجماعة السابقة في تقديم يد الدعم للحركات الانفصالية في الشيشان وشمال القوقاز، والذي يُعد خطاً أحمر يمس صميم الأمن القومي الروسي، وهو ما يفسر موقف موسكو من زيارة الرئيس مرسى آنذاك من عدم استقبال الرئيس بوتن له وعدم توريد القمح لمصر أيضًا، واستمرار هواجس الروس من تأثير نجاح الإخوان في مصر ومردود ذلك على منطقة شمال القوقاز، التي شهدت في الفترة الأخيرة نمواً غير مسبوق في جماعات الإرهاب الإسلامي ونشاطاتها، وكانت العملية الانتحارية التي شهدتها إحدى محطات مترو الأنفاق في روسيا في شهر مارس 2010 ثم العملية الثانية بمطار مديفيديف الدولي بموسكو في العام التالي بمثابة إعلان حرب بدلت من سلم أولويات القيادة الروسية حيث صدرت ملف الإرهاب الإسلامي الأصولي إلى صدر القائمة .
ولهذا كان الترحيب بأحداث 30 يونيو له أسبابه العدية التي من أهمها إزاحة أحد مصادر الخطر على الأمن القومى الروسى متمثلا في نظام حكم ذي توجهات إسلامية أصولية.
((ففي منطقة الشرق الأوسط الكبير المعلومات عن روسيا غير كافية، والناس بمختلف مستوياتهم يحملون عن روسيا وجهة نظر مسبقة وغير واضحة، وينطبق الشيء نفسه بالنسبة لموسكو ونظرتها للعالم الإسلامي. أما في الأروقة التي تحاك فيها السياسة الخارجية، بما في ذلك العلاقة مع العالم الإسلامي، فليس هناك فهم كافٍ لمفهوم البلدان الإسلامية الحديثة، ولمنظمة التعاون الإسلامي والمجتمع الإسلامي العالمي بأسره، كما لا يوجد فهم لكيفية الاستفادة من كل هذه الدول المنتشرة على نطاق العالم بأسره. والمسلمين الروس يشتكون في هذا الصدد من نشاط بعض الطبقات السياسية والتجارية والجماعات التي تعارض تطوير العلاقات مع العالم الإسلامي، جماعات الضغط واللوبيات المرتبطة بالبيروقراطية الروسية موجودة بالفعل وتحول دون تنفيذ هذه المبادرة، ولكنها ليست على كلمة سواء، فهي تقوم بهذه التحركات لأسباب مختلفة، وتترك الموقف سلبيًّا ثم يقوم أصحابها بإجراءات سياسية ذات صلة. ومع ذلك، فإن المشكلة الرئيسية ليست فيهم، ولكن في المسلمين أنفسهم الذين لا يملكون لوبيًّا مماثلاً يحقق مصالحهم، وهو ما يؤثر سلبًا على الوضع. ويحتل العالم الإسلامي اليوم كشريك لموسكو المرتبة الثالثة بعد الغرب والصين، وربما يكون الشيء الإيجابي هو نظرتهم لروسيا في المقام الأول كقوة موازنة لسياسات الولايات المتحدة)).
الخلاصة:
إن الإسلام كان وما زال من أهم ركائز ومكونات المجتمع الروسي، ولا يمكن إغفال دورهم ومعاناتهم تحت حكم القياصرة ومن بعدهم السوفيت وحتى الآن على الرغم من اتباع سياسات تعترف بهويتهم وثقافتهم وحقوقهم؛ إلا أنها لم تتحقق بشكل واقعي ضمن سياسات ونهج معلن.
وحتى مع تطور العلاقات الروسية مع العالم الإسلامي، كتطور العلاقات العربية-الروسية مؤخرًا كالعلاقات مع المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات، أو دولًا إسلامية كتركيا وماليزيا، فإن الإدارة الروسية ما زالت لا تحمل رؤية استراتيجية واضحة تجاه الإسلام وكيفية تطوير علاقاتها مع العالم الإسلامي باستغلال عنصر الهوية الإسلامية وأن المسلمين بروسيا هم ثاني أكبر أقلية، والواضح أيضًا بجانب عدم وجود رؤية خارجية روسية تجاه العالم الإسلامي، فبالداخل أيضًا لا توجد سياسة واضحة على أرض الواقع تجاه المسلمين الروس، بل أن السياسات الروسية لا تهتم بأراء ومشاعر المسلمين الروس تجاه العالم الإسلامي، جعلت المسلمين الروس في حالة مستمرة من عدم الثقة بسياسات الكرملين، كما ينتاب المجتمع الإسلامي الروسي حالة من عدم التنظيم وعدم وضوح للرؤية حتى تكون لهم قوة سياسية ضاغطة تُحترم.
——————————–
لمياء محمود الباجوري – باحثة ماجستير – جامعة القاهرة
الرد على الأسلحة والتدريبات البحرية الإيرانية الجديدة في الخليج
في 2 آب/أغسطس، بدأ السلاحان الجوي والبحري لـ«الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني تمارين عسكرية كبيرة غير معلنة في الخليج العربي ومضيق هرمز الاستراتيجي. وجاءت هذه الخطوة بعد الجولة الأخيرة من التهديدات والتهديدات المضادة بين إيران والولايات المتحدة حول حرية الملاحة في المضيق، حيث حذرت واشنطن من التسبب بتوقف شبه تام في صادرات النفط الإيرانية في إطار تجديد العقوبات النووية، بينما صرّحت طهران بأنها ستنتقم بإغلاق الممر المائي الضيق بوجه كافة شحنات النفط الأخرى. وفي الوقت نفسه، كان «الحرس الثوري» قد قام باختبار أو نشر أنظمة أسلحة جديدة يمكنها توسيع نطاق التهديدات التي تشكلها على الأهداف العسكرية والمدنية في الخليج وخارجه.
أول تمرين رئيسي منذ ثلاث سنوات
باستثناء المراجعة التي أجرتها قوات البحرية التابعة لـ«الحرس الثوري» في آب/أغسطس 2017 لنحو 110 زوارق سريعة، لم تجرِ إيران تدريبات بحرية واسعة النطاق في الخليج منذ آذار/مارس 2015. ولكنها بشكل غير اعتيادي، أطلقت جولة التدريبات الأخيرة دون أي من الدعايات المحلية المعتادة. وقد لاحظت البحرية الأمريكية الاستعدادات لهذه التدريبات قبل فترة وجيزة من بدئها، ولكن المسؤولين العسكريين الإيرانيين لم يؤكّدوها إلا بعد انتهائها. وقد وصفها «الحرس الثوري» بالتدريب المقرر على “مراقبة ورصد المضيق” بهدف إظهار استعداد إيران لمواجهة “أي عمل عدائي” في الخليج بشكل متناسب مع التهديد.
وقد تم نشر تفاصيل قليلة حول طبيعة هذه التدريبات التي استمرت أربعة أيام، على الرغم من أن قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال جوزف فوتيل قال للصحفيين في 8 آب/أغسطس بأن نطاق تلك التدريبات يتماشى مع التمارين السابقة الواسعة النطاق، ووصفها بأنها “تحذير” للولايات المتحدة، بإشارته إلى أن الإمكانيات الإيرانية “الإشكالية” مثل الألغام البحرية والزوارق المفخخة والصواريخ المضادة للسفن قد تثير مخاوف إذا ما حاولت بحرية «الحرس الثوري» إغلاق المضيق.
دور صاروخ “فتح مبين”
خلال إحدى مراحل التدريبات، أجرى «الحرس الثوري» اختبارات على الصاروخ الجديد “فتح مبين”، وهو صاروخ باليستي موجّه ومتعدد الاستعمالات يتم تطويره ضمن مجموعة “فتح-110”. ولم تؤكد إيران رسمياً وجود هذا الصاروخ – كما فعلت في ما يخص التدريبات نفسها – إلا في 13 آب/أغسطس، أي بعد يومين من قيام وسائل الإعلام الأمريكية بنشر الأخبار حوله.
ويدّعي «الحرس الثوري» أن بإمكان صاروخ “فتح مبين” اختراق منظومات الدفاعات الصاروخية للعدو مستفيداً من خفّيته وقدرته على المناورة، مما يؤدي إلى ضرب الأهداف البرية والبحرية بدقة فائقة ليلاً ونهاراً. ويظهر في فيديو الاختبار صاروخٌ يصيب هدفه بزاوية شبه عمودية، مستخدماً على ما بدا أنه رأساً موجهاً بالأشعة تحت الحمراء. وإذا تم صقل خصائص هذا الصاروخ ليصبح منظومةً عملية، فقد يعرّض السفن والبنى التحتية الساحلية في الخليج لتهديدات أكبر.
ومع أنه لا يُتوقّع أن يتعدى مدى صاروخ “فتح مبين” 200 إلى 300 كلم، ألمح مؤخراً وزير الدفاع الإيراني أمير حاتمي إلى إمكانية تكييف تكنولوجيا التوجيه النهائي الخاصة به لتطبيقها على صاروخ “ذو الفقار” الذي يتراوح مداه وفقاً للتقارير ما بين 700 و800 كلم، وكان يُستخدَم خلال الصيف الماضي في الضربات الموجهة ضد أهداف تنظيم «الدولة الإسلامية» في شرق سوريا. وإذ كشفت هذه الضربات عن مشاكل في دقة الاستهداف في صاروخ “ذو الفقار”، فإن إضافة مكونات “فتح مبين” إليه قد تؤدي نظرياً إلى تحسين فعاليته. كما أشار العميد حاتمي إلى إمكانية إطلاق صاروخ “فتح مبين” من البحر – وهذا ادعاء مقلق نوعاً ما نظراً لأن طول الصاروخ البالغ 9 أمتار قد يتيح تحميله في حاوية شحن ذات قياس معياري بطول 40 قدم (أي 12,2 متر) إلى جانب منصة إطلاق مصنوعة خصيصاً له.
طائرات وصواريخ موجهة (قذائف إنسيابية) جديدة
لتعزيز قوتها الرادعة وقدرتها الهجومية، أعلنت القوة الجوية الفضائية التابعة لـ«الحرس الثوري» في 25 تموز/يوليو أن عشر طائرات مقاتلة- قاذفة نفاثة من طراز “سوخوي سو-22” كانت عائدة للعراق سابقاً قد بدأت بدخول الخدمة بعد سنوات من أعمال الإصلاح، بمساعدة خبراء سوريين وبيلاروسيين وأوكرانيين وفقاً لتعض التقارير. وقد ذكرت مجلة “كومبات إيركرافت” خلال شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي أن عدة طائرات نفاثة يتراوح عددها بين 16 و22 طائرة يمكن إعادتها إلى الخدمة خلال السنوات القليلة المقبلة، والكثير منها سيُطرح للاستعمال قريباً.
والجدير بالذكر أن الحفل الإعلامي الذي رافق الإعلان الشهر الماضي ألقى الضوء على مجموعة من الأسلحة التي تم تطويرها محلياً والتي يمكن تسليح الطائرات بها، من ضمنها قنابل شراعية بوزن 500 باوند، وجراب استهداف مطور محلياً، وصواريخ “بينا” موجهة بالليزر مع رأس حربي بوزن 500 كلغ ومدى يبلغ 20 كلم، بالإضافة إلى نسخة إيرانية من القنبلة العنقودية البريطانية “بي أل-755” التي تحمل اسم “سيمرغ”. كما يدّعي «الحرس الثوري» أن مقاتلة “سوخوي” قادرة على تلقي بيانات استهداف من طائرات بدون طيار تحلّق على مسافة قريبة منها.
وعلى الرغم من أن منظومة صواريخ “سو-22” أصبحت قديمة، إلا أنها هبة من السماء بالنسبة لدولة مثل إيران تعذّر عليها الاستحواذ على طائرات حربية حديثة أو تطويرها لعقود من الزمن. وقد وضعت القوة الجوية الفضائية الطائرات النفاثة الجديدة في قاعدة “سيّد الشهداء” في شيراز، مع إمكانية نشرها في الخطوط الأمامية في مدن بوشهر أو بندر عباس أو جاسك أو كنارك وفقاً للضرورة. وتستطيع المقاتلة من نوع “سو-22 أم-4” ضرب أهداف سطحية بشحنة متفجرة وزنها 2000 كلغ ومدى يصل ما بين 600 – 700 كلم في مهمة ذات ارتفاع منخفض، وما يصل إلى 1150 كلم إذا كان الجزء الهجومي فقط من المهمة منفّذ على ارتفاع منخفض. وبالتالي، حتى إذا كانت المقاتلات المسلحة من طراز “سوخوي سو-22 فيتر” تعمل انطلاقاً من قاعدتها الرئيسية، فهي قادرة على بلوغ مسافات بعيدة تصل إلى الرياض، وهذا المدى يشمل كافة مناطق الدوريات ومحطات الناقلات والقواعد التابعة للبحرية الأمريكية في الخليج.
وبالطبع، قد لا تتمكن الطائرات الإيرانية الجديدة من الإفلات من أنظمة الدفاع الجوي الأكثر تطوراً والطائرات الاعتراضية وطائرات الإنذار المبكر التي تنشرها قوات دول الخليج والقوات الأمريكية. ولكن في الحرب الحديثة، قد يكون للأسلحة التي تحملها الطائرات أهمية أكبر من الطائرة نفسها، وبذلك تستطيع مقاتلات “سوخوي” أن تشكل منصةً لتوسيع مدى الصواريخ الجوالة. وقد زعم «الحرس الثوري» خلال حفل الإعلان عن الطائرات أنه يعمل على تطوير صاروخ كروز (جوال) يطلق من الجو ويناهز مداه 1500 كلم لاستخدامه في المستقبل على مقاتلات “سوخوي”. وإذا صحّ الأمر، فمن الممكن للطائرات الإيرانية المنطلقة من “بندر عباس” أن تهدد يوماً ما بالهجوم الدقيق أهدافاً بعيدةً تصل إلى سيناء ومضيق باب المندب وبحر العرب المركزي.
وفي الوقت الحالي، لا يتطابق أيّاً من الصواريخ الإيرانية المعروفة بأنها قيد التطوير مع هذا الوصف لصاروخ جوال يُطلق من الجو والبالغ مداه 1500 كلم. ففي آذار/مارس 2015، كشفت وزارة الدفاع الإيرانية عمّا زعمت بأنه خط إنتاج لصواريخ “سومار” – وهي نسخة عن صواريخ كروز الروسية من طراز “خ-55”. وتملك هذه المنظومة إمكانية بلوغ أهداف يصل مداها إلى 2500 كلم، ولكن حجمها الكبير يحول دون إمكانية نقلها في مقاتلات “سوخوي”. فضلاً عن ذلك، يعمل «الحرس الثوري» على تطوير صاروخ كروز أصغر حجماً يُدعى “يا علي”، لكن وفقاً لبعض التقارير يبلغ مداه الأقصى 700 كلم ولذلك فهو بحاجة إلى التطويل والتحديث المكثف ليتمكن من بلوغ المدى الذي زُعم بأنه يستطيع بلوغه خلال حفل إزاحة الستارة الشهر الماضي على مقاتلات “سوخوي”. وفي الوقت الحالي، يمكن تعديل الطائرات الجديدة بما يمكّنها من حمل الصواريخ الجوالة المضادة للسفن من نوع “قادر سي-803” والتي يتراوح مداها وفقاً للتقارير بين 200 و250 كلم وسبق تركيبها على مقاتلات “فانتوم أف-4 إي” المتمركزة في بندر عباس.
الخلاصة
على الرغم من أن المقاتلات الجديدة من طراز “سوخوي” تمنح إيران بعض الإمكانيات الإضافية، إلا أنها لن تغيّر قواعد اللعبة إلى أن ينتج «الحرس الثوري» صاروخاً جوالاً بعيد المدى لتحمله تلك الطائرات. بيد أن الأمر الأكثر إثارة للقلق في الوقت الحالي هو إمكانية انتشار الصواريخ الباليستية ذات التوجيه الدقيق مثل “فتح مبين”، التي يمكنها ضرب أهداف من البر أو البحر.
وتجدر الإشارة إلى أن الهدوء الذي تعاملت به إيران مع تدريباتها البحرية الأخيرة واختبارات “فتح مبين” لهوَ واقعة معبّرة. فقد يساور قادة النظام و «الحرس الثوري» القلق من أن تتسبب التمارين العسكرية الواسعة النطاق بإثارة غضب الشعب، بما أن العديد من المواطنين مستاؤون أساساً من تأثير الاستفزازات الإيرانية في الخارج على معيشتهم في البلاد. وهذا يوحي بأن على الحكومة الأمريكية العمل بفاعلية على لفت انتباه الشعب إلى أي مناورات عسكرية يبدو النظام حريصاً على التقليل من شأنها أمام جمهوره المحلي.
وأخيراً، تُظهر الإعلانات الأخيرة أن طهران قادرة على تطوير برنامجها الصاروخي تدريجياً حتى عندما تتجنب اختبار الصواريخ الباليستية الأبعد المدى التي تميل إلى إثارة الانتقادات والضغوط الدولية. فعلماء إيران يعملون على تقنيات جديدة يمكن أن تؤدي في نهاية المطاف إلى تحديث كامل مخزونها الصاروخي. من هنا، يجب على أي مفاوضات مستقبلية مع إيران بشأن الصواريخ أن تركّز على الدقة وكذلك على المدى، وأن تأخذ في الحسبان الصواريخ التي تطلق من الجو عند احتساب المدى.
——————-
فرزين نديمي هو زميل مشارك في معهد واشنطن، ومتخصص في الشؤون الأمنية والدفاعية المتعلقة بإيران ومنطقة الخليج.
السلطان الجديد وأزمة تركيا الحديثة
أدى الانقلاب الفاشل الذي وقع في 15 تموز/يوليو 2016 إلى تغيير السياسة التركية بشكل لا رجعة فيه. وعلى الرغم من إحباط محاولة الانقلاب لحسن الحظ، إلا أن المسار الذي اختاره أردوغان بعد الانقلاب – باستخدامه سلطات حالة الطوارئ التي مُنحت له لملاحقة مدبّري الانقلاب على وجه التحديد، ولكنه شرع بدلاً من ذلك في شن حملة أوسع نطاقاً بكثير ضد جميع المعارضين، والعديد منهم لم تكن له أي علاقة بالانقلاب بأي شكل من الأشكال – يسلّط الضوء على حقيقة مؤسفة بشأن البلاد: تركيا تتخبط في أزمة كبيرة.
فالبلاد منقسمة بين مؤيدين ومعارضين لأردوغان الذي فاز في دورات انتخابية متتالية في تركيا منذ عام 2002 على أساس برنامج شعبوي يميني. وقد قام أردوغان بتشويه صورة الناخبين الذين لن يصوتوا له على الأرجح وقمعهم، في إستراتيجية فاقمت إلى حدّ كبير الاستقطاب في تركيا، التي أصبحت الآن منقسمة بشكل كبير بين معسكر موالٍ لأردوغان وآخر مناهض له: ويتمثل الأول بائتلاف محافظ يميني من القوميين الأتراك يرى أن البلاد هي جنة؛ والثاني، وهو مجموعة فضفاضة من اليساريين والعلمانيين والليبراليين والأكراد، يعتقد أنه يعيش في الجحيم.
والأمر الأكثر مدعاة للقلق هو أن الجماعات الإرهابية على غرار «حزب العمال الكردستاني» اليساري المتطرف وتنظيم «الدولة الإسلامية» الجهادي تستغل هذا الانقسام في تركيا لتزيد إراقة الدماء وتعمق حدة الانقسام حتى بدرجة أكبر. فبين صيف عامي 2015 ونهاية 2016 وحده، واجهت تركيا 33 هجوماً إرهابياً كبيراً لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» و«حزب العمال الكردستاني»، مما أسفر عن مقتل ما يقرب من 550 شخصاً. ولجعل الأمور أكثر سوءاً، تتطلع الجهات الفاعلة الدولية، بدءاً من نظام الأسد في دمشق، التي حاولت أنقرة الإطاحة به أثناء الحرب الأهلية السورية، وإلى روسيا وإيران، اللتان تدعمان الأسد، إلى رؤية سقوط أردوغان وانزلاق تركيا في دوامة من الفوضى.
باختصار، تعيش تركيا في أزمة. هل يمكنها أن تنفجر في ظل هذه الضغوط؟ لا شك في ذلك، وإذا ما انفجرت، سيكون الأمر بمثابة كارثة حتماً. [وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن] تركيا تحتل موقعاً حاسماً – جغرافياً وأيديولوجياً – بين أوروبا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وهي من أقدم الديمقراطيات ومن أكبر الاقتصاديات بين إيطاليا والهند؛ لذا فإن انهيارها قد يغرق العالم في فوضى أكبر بكثير من تلك المستعرة حالياً في سوريا والعراق.
لكن هل تستطيع تركيا الابتعاد عن مثل هذا المستقبل المؤسف؟ من المستحيل إعطاء أي إجابة على هذا السؤال دون فهم كامل لارتقاء أردوغان السلطة وتطلعاته السياسية. فالرئيس التركي هو أحد أكثر رجال الدولة نفوذاً في عصرنا. وقد فاز هو والحزب الذي يتزعمه – في البداية بحكم القانون، وحالياً بحكم الأمر الواقع – بخمس انتخابات برلمانية، وثلاث دورات من الانتخابات المحلية على الصعيد الوطني، واثنان من الانتخابات الرئاسية بالاقتراع الشعبي، واستفتاءان بين عامي 2002 وأوائل 2018.
ولكن ماذا سيكون الإرث الدائم لأردوغان؟ فحيث يرزح سجله تحت جميع الانتقادات، إلّا أنه يتضمن العديد من العناصر الإيجابية، وعلى وجه التحديد، نجاحه في تحقيق النمو الاقتصادي وتحسين مستويات المعيشة. وهذا هو الجانب المشرق لأردوغان. فعندما جاء «حزب العدالة والتنمية» الذي ينتمي إليه أردوغان إلى السلطة في عام 2002، كانت تركيا دولة معظمها من الفقراء. إلّا أنها الآن بلد معظم مواطنيه من ذوي الدخل المتوسط . فقد تحسنت الحياة في جميع أنحاء البلاد، ويتمتع المواطنون ببنية تحتية وخدمات أفضل بشكل عام. في عام 2002، كان معدل وفيات الأمهات في تركيا مشابهاً إلى حد ما لنظيره في سوريا ما قبل الحرب؛ والآن هو قريب من المعدل في اسبانيا. بعبارة أخرى، اعتاد الأتراك العيش كالسوريين، بينما يعيشون الآن كالأسبان. وهذا هو السبب في استمرار تمتع أردوغان بشعبية كبيرة وفوزه بالانتخابات، على الرغم من أن دخل الفرد في تركيا لم يرتفع إلا بشكل تدريجي منذ تلك الزيادة “المعجزة” بين عامي 2002 و 2008. وفي المستقبل، سيكون الاقتصاد نقطة ضعف أردوغان. فإذا استمرت تركيا في النمو، فسوف تستمر قاعدة أردوغان في دعمه.
وعلى أي حال، فباستثناء الانهيار الاقتصادي، سيدخل أردوغان التاريخ باعتباره أحد قادة تركيا الأكثر شهرةً وكفاءةً ونفوذاً، ليصطف على الأرجح إلى جانب أتاتورك الذي آمن بأن النظام السياسي العلماني المتأثر بالثقافة الغربية الذي بناه في القرن العشرين لن ينهار أبداً.
كانت العلمانية سمة مميزة لإصلاحات أتاتورك وإرثه في تركيا. فأتاتورك، الضابط في الجيش العثماني، كان نتاجاً للإمبراطورية العثمانية بعد سقوطها: وكان علمانياً تماماً وموالياً للغرب. وجاءت محاولته التي تمثلت بإضفاء الطابع الغربي والأوروبي على تركيا بشكل جذري كردّ على انهيار الإمبراطورية، التي أطلق عليها اسم “رجل أوروبا المريض”. وكان يعتقد أن العثمانيين فشلوا لأنهم لم يصبحوا علمانيين ولم يتأثروا بأوروبا بدرجة كافية. فلو استطاعت تركيا أن تصبح قوية على غرار الدول الأوروبية – في تلك الأيام – التي ضمت العديد من القوى العظمى في العالم، فربما كانت ستتجنب المصير المظلم للإمبراطورية العثمانية، التي مزقتها الدول الأوروبية في نهاية الحرب العالمية الأولى. لقد أراد أتاتورك أن يجعل تركيا أوروبيةً تماماً كي تصبح دولة لا تقهر من جديد.
وقد تم انتقال موضوع استعادة عظمة تركيا إلى الأجيال اللاحقة من الزعماء الأتراك، وآخرهم أردوغان. ومن أجل تحقيق هذه الغاية عمد إلى جعل تركيا دولة شرق أوسطية قوية قادرة على منافسة الأوروبيين وقوى عظمى أخرى.
ولا يزال انهيار الإمبراطورية العثمانية يرسم معالم نظرة تركيا حول مكانتها في العالم، مما يخلف أساطير وأهداف يتردد صداها في العقلية التركية. فالدول التي كانت سابقاً إمبراطوريات عظمى لا تنسى أبداً هذا الواقع، وغالباً ما تتمتع بإحساس مرن ومبالغ فيه لأيام المجد، وتاريخ عن سبب عدم كونها إمبراطورية بعد [انهيارها السابق] – وهو مزيج حارق من الفخر بماضٍ مثالي، وشكوى من عظمة مفقودة أو مسروقة، واستعداد للتأثر (بمقدار أقل من التملق والعرضة للتلاعب) بسياسيين فعالين.
وبعد أن حَكَمَ تركيا لمدة 16 عاماً، منذ عام 2002، جمع أردوغان ما يكفي من النفوذ لتقويض إرث أتاتورك، وجعل “الكماليين” الأصليين – لو كانوا على قيد الحياة – يشككون في ثقتهم التامة بنظامهم. لقد قام بتفكيك علمانية أتاتورك خلال فترة تزيد قليلاً على عقد من الزمن، ونجح بذلك دون رحمة كبيرة لخصومه. وجعل شكلاً محافظاً ومتصلّباً من الإسلام يطغى على الأنظمة السياسية والتعليمية في البلاد وأبعد تركيا عن أوروبا والغرب. وللمفارقة، إن هذا هو جانب “أتاتورك” من أردوغان. وبالطبع، لا يشارك أردوغان قيم أتاتورك بل فقط أساليبه. وكما رسم أتاتورك معالم تركيا على صورته الخاصة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، يقوم أردوغان برسم دولة جديدة، ولكن تلك التي ترى نفسها إسلامية بشكل عميق في الأمور السياسية والسياسة الخارجية – لجعلها قوة عظمى من جديد.
وأردوغان هو بمثابة “أتاتورك” معادٍ لأتاتورك. كونه ترعرع في تركيا علمانية وواجه استبعاداً اجتماعياً في سن مبكرة بسبب تديّنه وآرائه المحافظة، يتحرّك أردوغان انطلاقاً من عدائه المتأصل لأساليب أتاتورك. ومع ذلك فقد قام بتفكيك نظام أتاتورك مستخدماً الأدوات ذاتها التي وفّرتها له النخبة المؤسسة في البلاد: مؤسسات الدولة وهندسة اجتماعية من المستويات العليا إلى المستويات الدنيا، وكلاهما من السمات المميزة لإصلاحات أتاتورك. وقد استخدم أردوغان وسائل أتاتورك وأساليبه لاستبدال حتى أتاتورك نفسه. والنتيجة النهائية هي قيام تركيا حالياً بالتمييز ضد المواطنين الذين لا يُعرّفون أنفسهم في المقام الأول من خلال الإسلام، وتحديداً الإسلام السني المحافظ، المذهب الذي ينتمي إليه أردوغان.
ومع ذلك، يواجه أردوغان مشكلة: ففي حين وصل أتاتورك إلى السلطة كجنرال عسكري، يتمتع أردوغان بتفويض ديمقراطي للحكم. وما هو أكثر من ذلك، أن تركيا تنقسم مناصفة تقريباً بين معسكرات مؤيدة لأردوغان وأخرى معادية له. وعلى الرغم من هذه الحقائق، يريد أردوغان بشدة تغيير تركيا على صورته بنفس الطريقة التي قام بها أتاتورك، وهنا تكمن أزمة تركيا الحديثة، وهي أن نصف البلاد تحتضن النسخة السياسية التي يتبعها اردوغان، لكن النصف الآخر يعارضها بشدة. وطالما تبقى تركيا ديمقراطية حقاً، فلا يمكن لأردوغان إكمال ثورته.
وقد أدى ذلك إلى ولادة الجانب غير الليبرالي الأظلم لأردوغان: فمن أجل أن يمضي قدماً في برنامجه للتغيير الثوري ضد مجتمع منقسم، قام بتخريب الديمقراطية في البلاد. فمن خلال استغلال شعبيته، تخلّى عن الضوابط والتوازنات الديمقراطية، بما فيها وسائل الإعلام والمحاكم. وبدلاً من تقديمه المزيد من الحريات للجميع، قام بقمع خصومه واعتقال المعارضين، وتوفير الحريات غير المتكافئة لقاعدته المحافظة والاسلامية. وعلى الرغم من فوزه بصورة ديمقراطية، إلا أن أردوغان أصبح أكثر استبداداً بمرور الوقت، وضمن عدم وجود تساوي في حقل العمل السياسي من أجل منع السلطة من الإفلات من يديه.
لقد أنجز ذلك من خلال لعبه دور “المستضعف المتسلط”. فمن خلال الاعتماد على روايته القائمة على الاستشهاد السياسي في ظل النظام العلماني في التسعينيات، يصوّر أردوغان نفسه الآن كضحية يضطر على مضض إلى قمع أولئك المتآمرين لتقويض سلطته. فقد أرهب وسائل الإعلام ومجتمع الأعمال من خلال عمليات تدقيق ضريبية ذات دوافع سياسية وسَجَن المنشقين والعلماء والصحفيين. وفي ظل حكمه يقوم رجال الشرطة بانتظام بقمع مسيرات المعارضة السلمية. ووفقاً لذلك، فعلى الرغم من استمرار حرية الانتخابات التركية، إلّا أنها غير عادلة على نحو متزايد. وقد أحدثت إستراتيجية أردوغان الانتخابية استقطاباً راسخاً في تركيا: فقد احتشدت قاعدته المحافظة، التي تشكل حوالي نصف البلاد، بحماسة حوله للدفاع عنه. أما النصف الآخر من البلاد، الذي تعرض للوحشية من قبل أردوغان، فيشعر باستياء عميق تجاهه. وعلى نحو متزايد، هناك القليل من القواسم المشتركة بين هذين الكيانين.
ومع ذلك، يرغب أردوغان في رسم معالم كامل تركيا على صورته. فقد جعل إظفاء طابعه الشخصي على السلطة وهيمنته على المؤسسات السياسية والمدنية إلى جعل تركيا دولة هشة من الناحية السياسية، وفي حالة أزمة دائمة. وقد حقق نجاحاً هائلاً في الانتخابات من خلال تشويه صور مجموعات سكانية مختلفة لم تكن لتصوّت له ومهاجمتها سياسياً. وإذا ما جمعناها معاً، تمثّل هذه الفئات ما يقرب من نصف الناخبين الأتراك، ولا يزال هناك الكثير من الأعداء الذين ينتظرون سقوطه من السلطة. ويدرك أردوغان أن أفعاله لم تترك له أي طريقة لائقة للخروج من المشهد [السياسي]. والأكثر من ذلك، أنه عندما يترك أردوغان منصبه – وسوف يفعل ذلك يوماً ما – لن يتبقى سوى عدد قليل من المؤسسات الدائمة للحفاظ على وحدة البلاد.
ولن تستطيع تركيا الخروج من أزمتها إلّا من خلال سن دستور جديد يوفر حريات واسعة لجميع المواطنين. يجب التذكر أن النظام العلماني الذي أوجد أردوغان هو النظام الذي عمل على حماية الحرية من الدين، ولكن لم يعمل على حماية الحرية الدينية. لقد عكس أردوغان هذه المواقف. وفي المرحلة القادمة، من أجل التأكد من احترام حقوق كل من تركيا التقية والعلمانية، يجب أن يضمن الدستور كلا شكلي الحرية الدينية. ومن شأن قيام ميثاق ليبرالي جديد أن يسمح لتركيا أيضاً بحل قضيتها مع الأكراد من خلال ضمان حقوق واسعة للجميع، بمن فيهم الأكراد. وإذا كان بوسع تركيا تحقيق السلام مع الأكراد، فبإمكانها أيضاً تحقيق السلام مع الأكراد الموالين لـ «حزب العمال الكردستاني» في شمال سوريا، وهو تطور مرحب به سيؤدي بدوره إلى منح أنقرة حاجز وقائي ضد عدم الاستقرار، والجهادية، والصراع الطائفي، والحرب الأهلية، التي من المحتمل أن تنحدر جميعها من سوريا وتهدد تركيا لعقود من الزمن.
وإذا قاد أردوغان تركيا بموجب دستور جديد يجمع معاً النصفين المتباينين في البلاد وفَتَحَ الطريق أمام السلام مع الأكراد، فقد يترك وراءه إرثاً سياسياً إيجابياً أيضاً. على أردوغان الإقرار بأن وقت الثورات بأسلوب أتاتورك – التي تتضمن الهندسة الاجتماعية في إطار تنازلي في تركيا (أو، في هذه الحالة، في أي دولة أخرى) – قد انتهى. وتجدر الإشارة إلى أنه في عشرينيات القرن الماضي كان معظم سكان تركيا – التي رسم أتاتورك معالمها على صورته – من الفلاحين الذين كانت نسبتهم حوالي 75 في المائة. وبالكاد كان 11 في المائة من الأتراك متعلمين، كما أن العديد من أولئك الأشخاص الأكثر تثقيفاً كانوا يدعمون أجندة أتاتورك. أما تركيا المعاصرة، التي يأمل أردوغان في رسم معالمها على صورته، فإن 80 في المائة من سكانها هم من الحضريين و97 في المائة من شعبها متعلّم.
لذا من غير المحتمل، وربما من المستحيل، أن يتمكن أردوغان من فرض رؤيته المتمثلة بإسلام محافظ متشدد على المجتمع التركي بأكمله، وهو مزيج من المجموعات الاجتماعية والسياسية والعرقية والدينية التي يعارض الكثير منها أجندة أردوغان. وعلى الرغم من جهوده الرامية إلى خلق طبقة من الرأسماليين الإسلاميين المحسوبين، إلّا أن الجزء الأكبر من أصحاب الثروة في البلاد لا يزال منحازاً إلى “جمعية الصناعيين ورجال الأعمال الأتراك” [“توسياد”]، التي تُعتبر نادي “فورتشن 500” التركي، المتمسكة بالقيم العلمانية والديمقراطية والليبرالية الموالية للغرب. إن تركيا بكل بساطة دولة متنوعة جداً ديموغرافياً، وكبيرة جداً اقتصادياً، ومعقدة للغاية سياسياً من أن يتمكن شخص واحد من رسم معالمها على صورته الخاصة على خلفية نظام ديمقراطي وقوى سياسية متنافسة. وطالما أنّ تركيا دولةٌ ديمقراطية، لن يتمكّن أردوغان من الاستمرار في الحكم كما يريد. بعبارة أخرى، يمكنه الاستمرار في تشكيل تركيا بشكل تنازلي فقط من خلال وضع حدّ للديمقراطية. صحيح أن أردوغان فاز في انتخابات 24 حزيران/يونيو، لكن فقط بعد إدارته حملة غير عادلة كلياً، وكان فوزه بهامش ضئيل بواقع 4 نقاط فقط. وهو يعرف تمام المعرفة أنه إذا ما تُرك الأمر للأدوات الديمقراطية، لن يقوم المجتمع التركي بانتخابه. لذا من “المنطقي” أن يصبح أردوغان أكثر استبداداً في المستقبل ليتجنب الإطاحة به، بغض النظر عما إذا كان في ما مضى “ديمقراطياً ملتزماً”.
يتعين على أردوغان تجنّب هذا السيناريو من أجل مصلحته الخاصة. فالرئيس التركي يرغب في جعل بلاده قوة عظمى. لقد جعل تركيا دولة مؤلفة من الطبقة الوسطى، ولديها الآن فرصة التحوّل إلى اقتصاد متقدّم إذا قام ببناء مجتمع معلومات يقوم على اعتماد القيمة المضافة، بما فيها البرمجيات وتكنولوجيا المعلومات. بعبارة أخرى، بإمكان تركيا التي يريدها أردوغان مواصلة صعودها إذا حوّلت نفسها من دولة تصدّر السيارات (تصديرها الرئيسي) إلى مركز لموقع “غوغل”. فرأسمال تركيا وطبقاتها الإبداعية ستترك البلاد إذا ما استمرت الحكومة في مسارها الحالي، كما أن رؤوس الأموال والمواهب الدولية ستتجنب دخول البلاد إذا لم يتمكن قادتها من توفير نفاذ غير مقيّد إلى الإنترنت وضمان حرية التعبير ووسائل الإعلام والتجمعات والاتحادات واحترام حقوق الأفراد والمخاوف البيئية والمساحات الحضرية والمساواة بين الجنسين – وهي جميعها مطالب رئيسية عبّر عنها المحتجون في “منتزه جيزي” ومنتقدو أردوغان في اليسار واليمين السياسي. وإذا بقيت تركيا مجتمعاً منفتحاً، ستواصل تقدّمها. أما إذا لم تعد ديمقراطية، فسيتوقف هذا التقدّم.
إن نمو تركيا والحظوظ السياسية لأردوغان مترابطة بشكل وثيق. كما أنها مرتبطة بالاقتصاد العالمي وبالحريات المتوافرة للمواطنين في معظم البلدان المتقدمة. وفي الواقع، يمثّل الاقتصاد نقطة ضعف أردوغان. فعلى الرغم من نمو اقتصاد تركيا بشكل ملحوظ من حيث الحجم منذ عام 2002، إلا أنه لا يزال صغيراً بما يكفي لكي ينكشف بشكل يرثى له على الصدمات الدولية المحتملة. لا بدّ من الاتعاظ من التباطؤ العالمي الذي كاد يدمّر اقتصاد كوريا الجنوبية في عام 1997، في وقت كان فيه اقتصاد ذلك البلد قابلاً للمقارنة تقريباً مع اقتصاد تركيا في أوائل عام 2017. لقد كان انهيار اقتصادي السبب الذي أتى بأردوغان إلى السلطة عام 2002، ويمكن لانهيار اقتصادي مماثل أن يعني نهاية حكمه.
إذا لم يستمع أردوغان إلى هذه النصيحة، سيعرّض بلاده لنزاع بين الكتلتين، تلك المؤيدة لـ «حزب العدالة والتنمية» والأخرى المناهضة له، كما أن هجمات تنظيم «الدولة الإسلامية» و«حزب العمال الكردستاني» والأعداء الأجانب لن تؤدي إلا إلى تفاقم الأزمة الناشئة. وفي هذا المسار المؤسف، سيعزز أردوغان أكثر فأكثر القومية الاستبدادية. إنه سيناريو “تدبير الأمور” الذي ستبقى بموجبه تركيا في حالة دائمة من الأزمات والصراع الاجتماعي. وللأسف، قد تتدهور الحالة حتى إلى ما هو أسوأ. وفي حين يسعى أردوغان إلى رسم معالم تركيا على صورته الخاصة، قامعاً في طريقه نصف سكان البلاد الذين يعارضونه، فإن معارضيه سيعملون بلا كلل من أجل تقويض أجندته: فالعنف سيولد العنف. ومن شأن الاستقطاب المحلي في تركيا أن يجعلها منكشفة على مكائد أعدائها الأجانب: موسكو، التي ستعمل وراء الكواليس لتقويض ثورة أردوغان؛ دمشق، التي ستستفيد من روابطها مع اليساريين الأتراك المتطرفين لإيذاء أردوغان؛ وأخيراً وليس آخراً، الجهاديون الذين سيعارضون في نهاية المطاف طابع الإسلام السياسي الذي يفرضه أردوغان من اليمين المتطرف. وإذ تترافق أزمة البلاد مع هذه التهديدات الخارجية، فيمكنها أن تقذف تركيا إلى آتون حرب أهلية خطيرة. وفي ظل هذا السيناريو، سيتمّ ذكر أردوغان باعتباره “السلطان الفاشل” الذي تسبب في انهيار تركيا الحديثة. والكرة الآن في ملعب أردوغان.
————
سونر چاغاپتاي هو زميل “باير فاميلي” ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن، ومؤلف الكتاب الجديد: “السلطان الجديد: أردوغان وأزمة تركيا الحديثة”.
صراع النفوذ الخليجي الإيراني.. العامل الأمريكي والحروب المحتملة!
مدخل:
كانت مرحلة ما بعد تولي الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب فرصة شديدة الأهمية بالنسبة لخصوم إيران الإقليميين، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية، وخصوصًا الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، الطامح للحكم، والباحث عن مكانة في صناعة القرار في بلاده وعلى مستوى الإقليم، في دفع الأمور إلى المزيد من التصعيد ضد النظام الحالي في إيران.
وفي حقيقة الأمر؛ فقد ساعدت سياسات النظام الإيراني، ولاسيما في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي، والتدخلات الإيرانية العديدة في شؤون الدول العربية، وانطلاق إيران إلى ما وراء حدود مجالها الحيوي المجاور، إلى دول لا تجاورها، لفرض مشروعها الإقليمي، مثل اليمن.
كذلك هناك نشاط إيراني كبير في دول غرب ووسط أفريقيا، وحتى مصر في بعض الفترات، بالإضافة إلى قطاع غزة، من خلال تمتين العلاقات مع فصائل المقاومة الإسلامية، مثل حركة “حماس”، وحركة “الجهاد الإسلامي”.
ولا يمكن أن ننكر أن المخاوف التي تشعر بها بعض دول الجوار، ولاسيما السعودية كذلك، من السلوك الإيراني، ذات أصل موضوعي، في ظل ما تبنته إيران في السنوات الأخيرة من سياسات، وما نفذته من خطط أوصلتها إلى حد السيطرة سياسيًّا وفعليًّا من خلال وكلاء محليين على أربعة عواصم عربية، بحسب أكثر من مسؤول إيراني، وهي: بغداد ودمشق وبيروت، فيما يعرف بالهلال الشيعي، بالإضافة إلى العاصمة اليمنية صنعاء.
وهو تصريح موجود ومعلن، أطلقه مسؤولون إيرانيون، ربما كان أهمهم، حيدر مصلحي، وزير الاستخبارات الإيراني السابق في حكومة الرئيس الإيراني المحسوب على تيار المحافظين المتشددين، محمود أحمدي نجاد، في أبريل 2015م.
وفي هذا الإطار، تحاول هذه الورقة أن تستقرئ بعض الأمور المتعلقة بعلاقات الأزمة الخليجية الإيرانية، في ظل التحركات السعودية المحمومة على الجبهة الأمريكية من أجل استدراك ما حققته إيران من مكاسب خلال مرحلة ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م على المستوى الإقليمي وما وراء مجال إيران الحيوي.
إيران ومحددات سياساتها الإقليمية.. فوضى الدولة ووكلاؤها!
شهدت العقود التي تلت انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، في العام 1989م، مساعٍ واسعة النطاق وعميقة الأثر، من جانب المؤسسات التابعة لنظام الحكم الإيراني بمكوناته الخاصة التي تنفصل تمامًا في خططها وآلياتها التنفيذية عن المؤسسات الحكومية التقليدية، من أجل تحقيق الغرض الذي توقف عند حدود العراق وقت وجود الرئيس العراقي صدام حسين في الحكم، وهو تحقيق هيمنة النظام الذي أفرزته الثورة الإيرانية، بمكوناتها القومية، الفارسية، والمذهبية، الشيعية، على المحيط الإقليمي.
وثمَّة تنويرات واجبة في هذا الصدد؛ حيث إن المشروع الإيراني بعد ثورة العام 1979م؛ لا يتعلق بالمجال الحيوي لإيران في الخليج العربي؛ حيث إنه يمتد إلى آفاق أوسع من ذلك بكثير؛ حيث يمتد من الظهير الحيوي الإيراني في وسط وجنوب آسيا، في أفغانستان، وغيرها، وصولاً إلى التخوم الغربية الأقصى للعالم الإسلامي، في الجزائر والمغرب ونيجيريا، ومناطق أخرى من منطقة الساحل والصحراء.
التنوير الثاني، يتعلق بطبيعة المؤسسات التي تقوم بهذه المهام خارج حدود إيران، وتعمل على تأمين النظام الذي يوجهها، في الداخل.
وهو أمر شديد الأهمية، ويستحق دراسة مفصلة في حد ذاته؛ حيث إنه من بين الأمور الأساسية التي حرص عليها النظام الذي أفرزته الثورة الإيرانية على أن تكون له مؤسساته الأمنية والسياسية السيادية، التي تكون فوق سلطة الحكومة المعروفة.
ومن بين أهم هذه المؤسسات، “الحرس الثوري”، وذراعه الضاربة، “فيلق القدس”، ومؤسسة المرشد الأعلى، والتي تمثل مصدر إلهام لكل المؤسسات والمواطنين في إيران.
ولقد حرص الآباء الأوائل للثورة الإيرانية، على أن يكون لهذه الأمور أدواتها التي تؤسس لها وتؤصلها، سواء على المستوى المعنوي المجتمعي، أو المؤسسي والدستوري؛ بحيث تضمن تنفيذ سياسات بمثل هذه الخطورة والعمق، وعلى المدى الطويل.
ولقد أثبتت هذه الرؤية نجاحًا كبيرًا؛ فبعد أقل من ثلاثة عقود على الهزيمة العسكرية الإيرانية أمام العراق؛ فإن المشروع الإيراني الآن على قدر كبير من التمدد، سواء بالمعنى العسكري، أو المعنى السياسي فيما يتصل بالنفوذ.
وفي هذا الإطار؛ تسعى هذه الورقة إلى محاولة رصد بعض من معالم الأسس التي استندت إليها الدولة الإيرانية في تحقيق هذه الطفرة في التواجد الإقليمي، بالرغم من وجود عوائق كبيرة من جانب قوى إقليمية ودولية عديدة ليست بالسهلة، تواجه المشروع الإيراني، وتعمل على تعطيله، أو على أقل تقدير احتواؤه، بما في ذلك تقديم الدعم العسكري لخصوم إيران ووكلائها المحليين، أو فرض عقوبات، وما شابه من إجراءات.
ولكن تنبغي الإشارة في هذا الصدد، إلى أن محتوى هذه الورقة عندما يتحدث عن الاتجاهات العامة للمشروع الإيراني في الإقليم؛ فإنه لا يقدم صورة إيجابية أو سلبية؛ إنما يقدم بشكل موضوعي متكامل إشارات عامة حول الأسباب التي أدت إلى نجاح نظام الملالي في طهران، في تحقيق هذا التقدم.
المعاملات الدولية القانونية التجارية واللوجستيات للباحث أحمد هادي أحمد ديك
ضمن المتغيرات والتطورات الاقتصادية التي يشهدها العالم في عصر العولمة، ولاسيما الحد من دور الحكومات في المجالات الاقتصادية، حيث أصبحت هذه الحكومات تُعنى بالدرجة الأولى بالأعمال الرقابية لهذا المجتمع إلى جانب وضع الضوابط، وسن التشريعات والقوانين المناسبة لحماية المصالح الاقتصادية للمجتمع، في ضوء ذلك جاء الاهتمام بنظام البناء- التشغيل-التحويل- والمعبر عنها بــــ ” البوت واشكاله المختلفة.
ولقد أدت مشاريع البوت إلى اقبال واسع وكبير من قبل الدول المتقدمة و النامية التي تسعى الى تطوير بنيتها التحتية وتحديث مرافقها العامة، حيث وجدت هذه الدول في مشروعات البوت خير سبيل في تحقيق هذا الغرض رغم أن هذه النظام كانت معروفة في الأعوام السابقة تحت مسميات أخرى كنظام الامتياز إلا أن الواقع الاقتصادي الحالي لكثير من الدول أسهم في اعتماده في القرن الحالي بشكل كبير، ويتوقع استمرار هذا الاتجاه في تمويل مشروعات البنية الأساسية وزيادته وربما مضاعفته مع بدايات هذا القرن، ويرجع السبب في ذلك الى انهيار المنظومة الإشتراكية بالإضافة الى امكانية الاستفادة من امكانيات وخبرات الشركات العملاقة المتخصصة في مختلف المجالات.
ويعد تمويل مشاريع البنية التحتية في أوقات الأزمات المالية أحد التحديات التي تواجه الحكومات في جميع الدول دون استثناء، وقد يكون التحدي أكبر للدول النامية، ولذلك تلجأ بعض الحكومات في مثل هذه الظروف إلى ترشيد الإنفاق، وإيقاف تنفيذ بعض المشروعات، وتأجيل البعض الآخر لحين تحسن الأوضاع المالية، ثم تعيد إحياءها من جديد، أو تقوم بالاقتراض من الدول أو البنوك الأجنبية، أو إصدار سندات طويلة المدى، كلتا السياستين تكون الحكومة فيها المالك والممول للمشروع، ويبقى دور القطاع الخاص منفذاً فقط، دون أن يكون شريكاً في التنمية بالمعنى الصحيح لمفهوم الشراكة.
هذه الحلول لها تكلفتها المالية والاقتصادية على المدى الطويل، ولا يمكن الاعتماد عليها في حال استمرار الأزمات الاقتصادية، وتراجع العوائد المالية لفترة طويلة؛ وبالتالي فإن اللجوء لخيارات التمويل الأخرى قد يكون أفضل السبل لتمويل بناء المشاريع المنتجة أو ذات العوائد المالية، فمثل هذه المشاريع لا يتوقف تمويلها على التمويل الحكومي المباشر، بل يمكن تمويلها عن طريق نظام البناء وإعادة الملكية والتشغيل (B,O.T).
سوريا.. إلى مزيد من التصعيد برغم قرار مجلس الأمن!
”.. هذه المناطق غير مشمولة بقرار مجلس الأمن الدولي الجديد”.. هكذا كان وضع ولسان حال عدد من الحكومات والعواصم الفاعلة في الحرب السورية، ولن نقول غداة، بل حتى في لحظة إصدار القرار الذي حمل رقم (2401)، وكانت قد تقدمت به الكويت والسويد، من أجل التوصل إلى هدنة في سوريا، لمدة شهر.
ولعل أهم الأمور التي يكشف عنها هذا الوضع الذي سوف تحاول هذه الورقة استجلاءه، هو مدى التعقيد الذي وصلت إليه الحرب في سوريا، مع تحولها إلى ساحة صراع لمختلف القوى الكبرى إقليميًّا ودوليًّا.
فقد استأنفت القوات الحكومية السورية عمليات القصف على مناطق الغوطة الشرقية المتاخمة للعاصمة دمشق، ويتمركز فيها عشرات الآلاف من مقاتلي المعارضة السورية المسلحة، في خريطة شديدة التعقيد، تكشف عمق الأزمة، وأنها بلا حلٍّ في الأفق إطلاقًا.
الإيرانيون والروس قالوا بأن القرار لا يشمل الغوطة لأنه توجد فيها فصائل مصنَّفة إرهابية، وعلى وجه الخصوص “هيئة تحرير الشام” التي تشكل “جبهة النصرة” – القاعدة في سوريا سابقًا عمودها الفقري – و”فيلق الرحمن” المتحالف معها، والمدعوم من قطر وتركيا.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن القرار حمل معطِّلاته، بل وشهادة وفاته؛ حيث إنه شمل ذات الاستثناءات التي تستند إليها موسكو ودمشق وحلفاؤهما في العمليات العسكرية التي تتم منذ سبتمبر 2015م، وحتى الآن.
فلذلك، لا يبدو من المفهوم سبب إصرار الدول التي أعدت القرار وأصرت على التصويت عليه في مجلس الأمن، على القرار الذي بذلك وُلِد ميتًا!
فبطلب من موسكو، ولأجل تفادي “فيتو” منها يعطل القرار، تم تضمين استثناءات من وقف إطلاق النار، للمعارك ضد تنظيم الدولة “داعش”، و”القاعدة”.
وبطلب من موسكو كذلك، شمل هذا الأمر “أفرادًا آخرين ومجموعات وكيانات ومتعاونين مع “القاعدة” وتنظيم “الدولة الإسلامية” وكذلك مجموعات إرهابية أخرى محددة من مجلس الأمن الدولي”، بحسب ترجمة لوكالة الأنباء الفرنسية لنص القرار.
مصدر الاستغراب الآخر، هو أن القرار في بواعث إعداده كان إنسانيًّا بشكل بحت، من أجل رفع الحصار عن بعض المناطق المأهولة، من بينها الغوطة الشرقية ومخيم “اليرموك”، بلدتَيْ “الفوعا” و”كفريا” ذاتا الغالبية الشيعية.
وبالتالي؛ فقد كان يمكن الاستقرار على الجانب الإنساني، مع تنفيذ مطلب روسيا بأن تشرف دمشق على قوافل الإغاثة الإنسانية، من دون أية تفاصيل سياسية، تمس صلب الحرب التي تصاعدت في الأسابيع الأخيرة، في إدلب، وفي الغوطة.
أما الأتراك، فقد قالوا بأن لديهم اعتبارات أخرى لا تتصل بالحرب الحالية في سوريا، فيما يخص عمليتهم العسكرية في “عفرين”، شمال غرب سوريا، ضد وحدات حماية الشعب الكردي، وبأن قرار مجلس الأمن غير معني بها.
في هذا الإطار، تسعى هذه الورقة لأن تناقش بعض الجوانب المتعلقة ليس بالقرار في حد ذاته، وإنما بحقيقة المشهد في سوريا، والذي تُعتبر الشؤون العسكرية فيه؛ هي الواجهة لا أكثر!
———–
أحمد التلاوي: باحث مصري في شئون التنمية السياسية، وكاتب أساسي في مركز سام للدراسات الإستراتيجية
دمشق وطهران والكيان الصهيوني.. هل تتحول الحرب السورية إلى صراع إقليمي؟!
قد يرى البعض في السؤال الذي يتصدر عنوان هذه الورقة غير ذي جدوى؛ حيث إنه، ومنذ فترة، فإنه من المعروف أن الحرب السورية، لم تتحول إلى صراع إقليمي فحسب، وإنما أصبحت كذلك ساحة لصراع القوى العظمى في عالم اليوم، باحثة عن، أو محافظةً على مصالح أمنية وسياسية واقتصادية عدة، تجد في سلوك وتدخلات خصومها في سوريا، تهديدًا لها.
إلا أنه، وفي النهاية؛ فإن أية تدخلات إقليمية ودولية عرفتها الحرب السورية؛ كانت في إطار صراعات الوكالة، ولم تشهد الحرب السورية إلى الآن أية اشتباكات بين القوى المتحاربة على الأرض السورية بشكل مباشر.
وحتى عملية “عفرين” التي بدأها الجيش التركي بمساعدة مرتزقته في الجماعات المسلحة، وفي “الجيش السوري الحر”؛ فإنها تضمنت منظومة من الترتيبات الصارمة، سواء على المستوى الاستخباري والعسكري، أو المستوى الدبلوماسي والسياسي، ما يضمن عدم حدوث أي خلل يؤدي إلى صدام الجيوش النظامية للدول المنخرطة في الحرب السورية، بشل مباشر.
وباستثناء القصف الأمريكي لقاعدة “الشعيرات” الجوية السورية، في السابع من أبريل 2017م، على خلفية الهجوم الكيماوي الذي وقع على “خان شيخون” في حينه؛ فإنه لم تقم أية قوة نظامية مسلحة تتبع دولة بالتعرض لقوات دولة أخرى.
وحتى الهجمات الأمريكية الأخيرة قرب دير الزور، لم تطال قوات سورية نظامية، وإنما قوات حليفة للنظام السوري.
إضافة إلى ذلك؛ تبرز أهمية ما وقع بين إسرائيل وسوريا، وفي المنتصف منهما إيران، في أنه يُعتبر تصعيدًا في ملف ربما يمثل أحد أخطر الملفات الأمنية والسياسية في المنطقة، وهي الحرب الباردة التي تسخُن أحيانًا، ما بين إسرائيل وبين إيران ومحورها في المشرق الإسلامي، والذي يضم سوريا والعراق الآن، بالإضافة إلى مجموعات مسلحة تدين بالولاء للمشروع الإيراني الإقليمي، مثل “حزب الله” اللبناني.
وهذا الملف هو الأخطر بالفعل، ولو اندلع؛ فسوف يعني وصول المنطقة إلى نقطة انفجار كبرى لن ينجو منها أحدٌ في ظل ارتباطها بمختلف الملفات السياسية والأمنية الإقليمية الكبيرة، بما فيها ملف الجماعات المسلحة شبه النظامية، وتصادم الأصوليات الذي يضم كافة الشعوب الموجودة في المشرق العربي الآن، وتعتبر سوريا موطنًا مهمًّا له؛ هذا التصادم.
كما سوف يشهد الإقليم – في ظل الترتيبات الأمنية والسياسية الموضوعة لبقاء ووجود الكيان الصهيوني بين ظهراني أمتنا العربية والإسلامية – تدخلاً عسكريًّا مباشرًا من جانب القوى العظمى، وخصوصًا التحالف الأنجلوساكسوني الإنجيلي الذي يؤمن تمام الإيمان بشكل ديني عَقَدِي، بالمشروع الصهيوني.
ولذلك، وفي ظل الطابع الديني والسياسي الصفري الحاكم لهذا الصراع؛ فإن لو وصل الأمر في هذا الموضوع إلى مستوى الحرب الشاملة؛ فلن يبقى مكانًا واحدًا ينعم بالسلام في المشرق العربي، بما في ذلك منطقة الخليج ذات الأهمية الإستراتيجية العالمية.
وفي هذا الإطار، تحاول هذه الورقة استجلاء واقع الذي جرى في هذا اليوم الاستثنائي، وعلاقته بالتطورات الأخيرة التي جرت في سوريا وارتباطاتها الإقليمية والدولية.
———–
أحمد التلاوي: باحث مصري في شئون التنمية السياسية، وكاتب أساسي في مركز سام للدراسات الإستراتيجية