يبدو أن موسكو كانت واثقة من نفسها أكثر من اللازم في عملية اغتيال الجاسوس الروسي المزدوِج، سيرجي سكريبال وابنته، في مدينة “سالسبيري” البريطانية؛ حيث تثبت تداعيات الحادث، وردود الفعل الروسية إزاء هذه التداعيات، أن موسكو قد بالغت في تقدير قوتها، وفي تقدير ردود أفعال خصومها عندما أقدمت على ارتكاب هذا الحادث.
وعندما تقول ردود أفعال خصومها؛ فإننا نعني صورة أوسع وأشمل من القضايا والملفات والأطراف، تتجاوز واقعة محاولة الاغتيال، إلى أمور أكبر، كان نقطة استخدام مَن حاولوا اغتيال العميل الروسي المزدوِج، لغاز أعصاب محرَّم دوليًّا، وللمرة الأولى على أرض أوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، هي الصاعق المفجِّر لها.
أي أنها كلها حزازات وأمور كانت مختفية ظاهريًّا أسفل سطح السواتر الدبلوماسية، ومكتومة، ولكنها تتراكم، ولذلك وجدت لنفسها منفذًا عندما وقعت الأزمة.
ويؤيد ذلك، أن هناك سابقة وقعت في نوفمبر من العام 2006م، تم خلالها تسميم عميل روسي آخر هارب، وهو ألكساندر ليتفينينكو؛ حيث تم استخدام مادة “البولونيوم – 210″، للمرة الأولى، في ارتكاب عملية اغتيال سياسي، وأشارت التحقيقات التي أعلن “سكوتلانديارد” عن نتائجها في العام 2015م، وذكرت فيها أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصيًّا يقف خلف أوامر تسميم ليتفينينكو، وبرغم ذلك؛ فإن الأمور لم تأخذ هذا المنحى التصعيدي، والذي شمل بجانب قيام 23 دولة بطرد عشرات الدبلوماسيين الروس، منهم ستين في الولايات المتحدة وحدها، بجانب إغلاق القنصلية الروسية في سياتل الأمريكية؛ استدعاء الاتحاد الأوروبي لسفيره في موسكو للتشاور، بالإضافة إلى طرد حلف شمال الأطلنطي “الناتو” لسبعة دبلوماسيين روس، ورفض منح تصريح لثلاثة آخرين، في أحدث الإجراءات في هذا الصدد.
وفي هذا الإطار، تسعى هذه الورقة إلى محاولة رسم صورة شاملة للموقف، وما وراء الأحداث الحالية المتلاحقة في ملف سكريبال، ومعرفة حقيقة مواقف الأطراف المختلفة من الأزمة، والأسباب الحقيقية لهذه المواقف المتباينة في حقيقة الأمر، والتي تتجاوز قضية سكريبال الذي هو بلا قيمة لدى كل هذه الأطراف التي تتحرك هنا وهناك، وحتى تتجاوز نقطة استخدام غاز أعصاب في محاولة اغتياله.