لطالما تميزت الساحة السياسية الأمريكية عن غيرها من الدول بميلها إلى المفاجآت التي لا يتوقعها أحد، وقد أضحى ذلك شائعًا منذ زمن طويل. فلو نظرنا إلى رؤساء أمريكا على مر السنوات، لوجدنا أن من بينهم أشخاصًا كان يُعتقد باستحالة اعتلائهم كرسي الرئاسة بالمطلق. وعلى رأسهم أبراهام لنكولن، الذي كان ينظر إليه على أنه صاحب تاريخ سياسي ضعيف وشخصية عادية. أو رونالد ريجان، ذاك الممثل الفاشل الذي كان يعتبر أقل ثقافة من أن يصبح رئيسًا. ثم أتى باراك أوباما، ورغم شخصيته القوية وثقافته الواسعة، كان المنطق يقول إن أمريكا غير مستعدة لرئيس أسود. ولكن ما إن بلغ سالفو الذكر قمة الهرم السياسي الأمريكي حتى بدا الأمر عاديًا. واستوعبت البلاد ما كان يُعتقد أنه مستحيل من قبل.
والآن يظهر دونالد ترامت كمرشح جمهوري افتراضي في الانتخابات الرئاسية، وهو أمر كان في غير الحسبان بالمرة. اعتقد الكثيرون بادئ الأمر أن ترشحه ليس إلا مزحة. بيد أنه تصدر استطلاعات الرأي، قلنا إنه سيسقط في التصويت الحقيقي، وحين اكتسح الانتخابات التمهيدية، قيل إنها زوبعة لن يطول أمدها. وعندما واصل التقدم، تعهد كبار قادة الحزب الجمهوري بعرقلته لأنه لا يمكن السماح له بالظفر بالترشيح.
ولكنه فعلها، وقد يصبح رئيس الولايات المتحدة قريبًا. فكيف غدا المستحيل ممكنًا؟ إليكم خمسة أسباب لظاهرة ترامب.
اللياقة السياسية
ترسخت مبادئ هذه الحركة القوية في الثقافة الأمريكية إلى درجة أننا لم نلاحظ حجم الغضب بين الأمريكيين الذين لم يروا أن العالم يتحلى باللياقة السياسية. ويرى الكاتب أن هذا قد أجهز على حرية التعبير في الجامعات الأمريكية. وقد أزعج ذلك الكثيرين ممن يتطلعون إلى بيئة تعليم منفتحة على التفكير السياسي، بما يتفق مع وجهات نظرهم ومبادئهم. وقد اتضحت معاناة المواطن العادي من هذه الظاهرة الثقافية من حيث تأثيرها في حياته اليومية. وتهدف اللياقة السياسية إلى الحد من الضعف السياسي بتصنيف أفكار كانت مقبولة قبل سنوات على أنها غير شرعية بالمطلق.
لذا، فعندما اقتنع المرء أن حدود أمريكا ليست مؤمنة بالشكل الكافي، ويجب إعادة ضبط الأوضاع عندها، اعتُبر عنصريًّا بغيضًا. وإذا ما أراد المرء مواجهة المتشددين الإسلاميين كما يجب، اعتُبر مصابًا بالإسلاموفوبيا. وستُصنف على أنك متشدد إذا ما أعدت إحياء تقاليد حول الزواج، كانت فيما مضى مقبولة لدى غالبية الأمريكيين.
يضرب الكاتب مثالًا على ذلك بقصة الفتى الذي علق لافتة في مدرسته في سياتل كتب عليها «ابنوا الجدار»، واعتبرت لافتة عنصرية وأجبرته المدرسة على الاعتذار. هذا الفتى يمثل 11 مليون صوت حصل عليها مرشح الحزب الجمهوري في الانتخابات التمهيدية، بيد أنه اعتُبر عنصريًّا.
تصدى ترامب لكل ذلك بشكل لم يسبقه إليه أي سياسي أمريكي. فعندما طالب بحظر دخول المسلمين إلى أمريكا لحين وضع حل للإرهاب، اعتُبر رأيه عنصرية فجة. ولكن كشفت نتائج الانتخابات التمهيدية أن الكثير من الأمريكيين يوافقونه الرأي.
الهجرة
لم يتصد أي سياسي أمريكي، بخلاف ترامب، بشكل جدي لمشكلة الحدود. ظلت البلاد أسيرة فكرة العفو عن المهاجرين غير الشرعيين مقابل وعود بحل مشكلة الحدود. ولكن وقفت الحكومة متفرجة أمام تعاظم المشكلة بشكل مطرد. بل وأظهر المفكرون سعادتهم بأن تدفق المهاجرين أضعف من صورة الجمهوريين وكل من يحاول الحفاظ على تقاليد البلاد. ثم ظهر ترامب، كما يشير الكاتب، الذي هاجم المتسامحين مع فتح الحدود بشكل جاد يؤكد عزمه محاولة حل المشكلة.
انحسار الطبقة الوسطى
قال مركز «بيو» للأبحاث إن الطبقة المتوسطة الأمريكية تقلصت إلى أقل من النصف، بالمقارنة مع نسبة 61% في منتصف القرن الماضي. تقوم هذه الطبقة على الإنتاج الصناعي. ولكن مع تراجع الصناعة في أمريكا، فقد الكثير من العاملين في الصناعة وظائفهم. يقول التقرير إن «حتى الأمريكيين الذين لم يحصلوا على شهادة جامعية كانوا يؤدون بشكل جيد، ولكنهم الآن يواجهون خسائر قاسية».
ينقل الكاتب عن تقرير للفايننشال تايمز عرض فيه أستاذ في معهد ماساتشوستس أن «الهوة اتسعت بين العاملين من خريجي الجامعات والعاملين من خريجي المدرسة الثانوية لتبلغ الضعف بحلول عام 2012».
وقد أدى هذا الانهيار الاقتصادي إلى زيادة هائلة في معدلات الطلاق وتناول الكحوليات والمخدرات والانتحار. وقد شعر الكثيرون في تلك الطبقة بالتجاهل من قبل النخبة السياسية في البلاد، وقد زاد التسامح مع المهاجرين من المشكلة بسبب انخفاض الأجور. ثم جاء ترامب لينتقد تراجع الصناعة بفرض تعريفات حمائية.
العولمة
يقول الكاتب إنه قد حذر سابقًا من أن العولمة هي الخطأ الأكبر الذي يرتكب في البلاد حاليًا. فبعكس ما يؤمن به منظرو العولمة من أن العالم قرية صغيرة، وأنه لا بد من السماح للأفراد والبضائع والناس بالتنقل بحرية، يؤمن القوميون بالحدود والتعايش المشترك. يبدو منظرو العولمة مفتونين بالمغامرات البعيدة، إما لنشر عظمة أمريكا، أو لتطييب جراح البشرية.
ورغم أن فكرة العولمة تسيطر على كافة المؤسسات الكبرى في الولايات المتحدة، مثل وسائل الإعلام والشركات الكبرى وهوليوود… إلخ، إلا أن الشعور القومي منتشر على نطاق واسع في أمريكا، وقد بات لهم منبر يعبر عنهم، وهو التصويت لترامب.
إفساد الثقافة الأمريكية
لطالما تعرضت الثقافة الأمريكية فيما يتعلق بقيم تتصل بمسائل كالجنس واستخدام المخدرات واللغة الدارجة والزواج إلى هجوم منذ عقود. بل إن أحد أعضاء مجلس الشيوخ كان قد دعا الأمريكيين قبل ثلاثة عقود إلى التسامح وتقبل السلوكيات التي يعتبرونها منحرفة. ولكن لا يمكن اعتبار ظهور ترامب على أنه رد على دعوات الابتذال، فالرجل له سقطاته المحرجة بالتأكيد. ولكن اهتزاز القيم المجتمعية مهد الطريق لنسخته المبتذلة من السلوك السياسي.
ويختتم الكاتب حديثه، بأنه لم يكن ثمة ما يردع تصرفات الفتى المشاغب ترامب، بل إن تفسخ المجتمع الأمريكي قد مهد الطريق أمامه ليصبح على مرمى حجر من كرسي الرئاسة.
———–
هذه الترجمة نشرت اساسا في موقع ساسة بوست