أعكف حاليًا على إعداد دراسة بحثية بعنوان (العوامل الوطنية والإقليمية والدولية وتأثيرها على إعادة تحقيق الوحدة اليمنية وقيام الجمهورية اليمنية عام 1990م، وهو ما مكنني من الغوص في مسألة الوحدة والتشطير وربما تنبع أهمية الدراسة من ذلك الجدل الدائر الراهن حول موضوع الوحدة والإشكاليات التي ترافقت معها وحيث ظل البعض ظلماً يحملها كل الموبقات ويقرنها بممارسات سلبية، لم يكن للوحدة أي صلة بها ولكنها المصالح الأنانية والإسقاطات والصراعات السياسية التي أرادت تلبيس الوحدة كل السوءات وتحميلها مسؤلية تصرفات الأفراد أو أخطاء الممارسات في الحكم أو الإدارة والتنمية أو الديمقراطية أو غياب الأفق الصحيح للتعامل مع موضوع الوحدة باعتبارها هدفاً وغاية وطنية شريفة، وأنها الأصل وما دونها من عوامل التشطير والفرقة هي الاستثناء ومما أوضحته الدراسات وحقائق التاريخ (أن الوحدة اليمنية قاعدة سائدة في تاريخ اليمن وأن حالات التجزئة والانفصال التي تعرض لها اليمن في بعض المراحل بفضل مجموعة من عوامل التأثير الداخلية والخارجية تشكل حالة استثنائية مؤقتة استعاد اليمن وحدته الطبيعية بمجرد زوالها).
ولهذا، فإن الإرادة الوطنية لأنصار الوحدة كان لها الغلبة على النزعات الانفصالية في تاريخ اليمن وللمحاولات التي استهدفت تجزئة وتشطير اليمن في فترات زمنية محدودة تلقي بآثارها السلبية على عوامل تعزيز مستقبل الوحدة.
وتشير إحدى الدراسات التي قامت بحصر زمني لمراحل تاريخ اليمن التي ساد فيها حكم دولة الوحدة المركزية وحالات التجزئة والانقسام بأن زمن الوحدة يتجاوز بنسبة 80% من تاريخ اليمن السياسي مقارنة بحالات التجزئة تخلل معظمها الصراع من أجل إعادة الوحدة.
ولهذا فإن انهيار الوحدة تحت أي عوامل سرعان ما تنقسم فيه اليمن إلى كانتونات وكيانات ضعيفة ومتصارعة مع بعضها البعض، وقد حدث ذلك عقب انهيار وحدة دولة سبأ المركزية؛ حيث توزعت حكم اليمن أربعة كيانات سياسية هي دولة سبأ في مأرب ودولة معين في النصف الغربي بمنطقة الجوف ودولة قتبان في بيجان ودولة حضرموت في شبوة.
ولكن ظلت الهوية اليمنية وخصائصها المقترنة بالوحدة الدينية واللغوية والاجتماعية والثقافية هي الحامي لقضية الوحدة والحافز القوي لإعادة تحقيقها خلال مراحل الانكسار والتجزئة وهي التي ساهمت بصورة إيجابية في تأمين استمرار أقدم نظام توحيدي عرفه اليمن وحتى في مراحل التجزئة التي تعرض لها اليمن عقب تفكك وحدة حكم الدولة المركزية؛ فإن خصائص ومقومات وحدة الهوية اليمنية شكلت الضمانة الحقيقية لاستمرار وحدة هوية اليمن الاجتماعية والاقتصادية والثقافية فى ظل انفصام عُرى وحدتها السياسية. وحيث ظلت تلك الهوية موحدة عبر القرون مكونة تواصلاً حضاريًا وثقافياً واجتماعياً، وظل اليمنيون يشعرون على الدوام بأن الوحدة تشكل رابطًا عضويًا مشتركًا بينهم حتى في ظل حالات التجزئة السياسية وتعدد سلطات الحكم الاستثنائية، ومهما تعالت دعوات الانفصال والعودة للتجزئة أو حيكت المؤامرات لإعادة تمزيق وحدة اليمن والعودة بالأوضاع إلى ما قبل إعادة تحقيقها مرة أخرى في الـ 22 من مايو 1990م.
إلا أن تماسك الهوية اليمنية تمثل الضمانة وصمام الأمان لضمان استمرارية الوحدة تحت أي مسمى أو راية وحمايتها ضد كل التحديات التي تستهدف حاضر ومستقبل وحدة اليمن السياسية في تاريخه المعاصر.. والعيب لن يكون أبداً في الوحدة لأنها غاية وطنية نبيلة ولكن في الممارسات الخاطئة التي تشوه هذه القيمة الوجودية والمصيرية للشعب اليمني الواحد كهدف استراتيجي وغاية الموحد منذ الأزل وتجعل منها عنصراً للخلاف والتشويه والصراع.
———-
المقالة من كتاب شذرات من دفتر الصحافة للكاتب عبده بورجي