تؤدي التوترات السياسية بين مؤيدي ومعارضي مسلسل العدالة الانتقالية في تونس وتطبيقها في الميدان الاقتصادي إلى تأخير تنفيذ السياسات الضرورية لتحفيز الاقتصاد ومعالجة مشكلة الفساد.
مؤيدو المسلسل يعتبرونه جوهريا من أجل المحافظة على الجذوة الثورية حيّة، من خلال استعادة ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة وتعزيز سيادة القانون والتنمية العادلة والمصالحة.
أما خصومه فيعتبرونه من بقايا سياق سياسي قديم وعقبة في وجه الانتعاش الاقتصادي. سيكون هناك حاجة لحلول وسط لتحقيق المصالحة بين هذين المعسكرين وكذلك تعزيز جهود الحكومة لاستئصال الفساد وتحقيق الاندماج الاقتصادي للأقاليم التي كانت أكثر عرضة للإهمال في ظل النظام السابق.
بعد سقوط الرئيس زين العابدين بن علي في 14 كانون الثاني/يناير 2011، نفذت الجهات السياسية الفاعلة في تونس شكلاً عشوائياً من العدالة، واعتباطياً في كثير من الأحيان، شمل جملة متنوعة من الإجراءات ترمي لمعالجة قضايا بعينها خارج إطار الجهاز القضائي، يمكن وصفها بـ “العدالة الثورية”. تمكّن ضحايا النظام السابق من الحصول على تعويضات مادية ورمزية، بينما تمت مصادرة أملاك رجال الأعمال الذين كان يعتقد بأنهم ضالعون في الفساد، وواجهوا المحاكمات (التي لا زال العديد منها معلّقاً) أو تعرضوا للابتزاز.
في كانون الأول/ديسمبر 2013، تم تأسيس هيئة الحقيقة والكرامة كآلية لتنفيذ عدالة انتقالية شاملة على أساس قانوني وتبعاً لتطورات نظرية العدالة الانتقالية واستخداماتها في بلدان أخرى، وتم ترسيخها في الدستور التونسي الجديد (الذي صدر في كانون الثاني/يناير 2014). حكومة الترويكا التي كانت في السلطة حينذاك (والتي كانت تضم القوى السياسية المعارضة أو تلك التي كانت في المنفى خلال حقبة بن علي) دعمت ذلك التحرك.
بعد التغيّرات التي طرأت على المشهد السياسي التونسي في كانون الأول/ديسمبر 2014، بدأ دعم هيئة الحقيقة والكرامة بالتداعي. التحالف الحكومي والبرلماني الجديد بين نداء تونس، الحركة العلمانية التي منحت حياة سياسية ثانية لأفراد النظام السابق، وحزب النهضة الإسلامي (العضو السابق في الترويكا) أوجد توازناً سياسياً مال لصالح فقدان الذاكرة الانتقائي على حساب التذكّر.
خلال النصف الثاني من عام 2015، أصبح النقاش العام حول عملية العدالة الانتقالية أكثر حضوراً وأيضاً أكثر استقطاباً. في تموز/يوليو، طرح الرئيس الباجي قائد السبسي مشروع قانون مصالحة اقتصادية يقلّص صلاحيات هيئة الحقيقة والكرامة. يجادل الخصوم الأكثر تشدداً لمشروع القانون، الذي تم تأجيله في الوقت الراهن، لكن الذي يمكن أن يعود إلى الظهور بشكل جديد، بأنه سيكون بمثابة عفو عن أولئك الذين كانوا ضالعين في الفساد وبالتالي سيؤكد انتصار “الثورة المضادة”. يشير استخدام هذا التعبير إلى إعادة إحياء النخبة الاجتماعية – الاقتصادية التقليدية في تونس، والتي يتحدر معظم أفرادها من العاصمة والساحل الشرقي، وهي المناطق التي أضعفتها ثورة 2010-2011.
يعتبر مؤيدو مشروع القانون – بما في ذلك حركة النهضة، التي تتنازعها مُثُلها الثورية كحركة معارضة سابقة، من جهة، وتصميمها على المحافظة على الائتلاف الهش مع نداء تونس، من جهة أخرى – تنفيذ إجراءات العدالة الانتقالية تهديداً للاستقرار، حيث يريد هؤلاء من هيئة الحقيقة والكرامة التخلّي عن ملاحقتها لحالات الفساد التي ظهرت في الفترة 1955-2013 والتركيز بدلاً من ذلك وبشكل حصري على انتهاكات حقوق الإنسان.
على كلا الطرفين تقديم تنازلات إذا أرادا تجاوز هذا الصراع. أولاً، سيكون ضرورياً تسوية سوء الفهم الناشئ عن ارتباط العدالة الانتقالية – والدور المشروع الذي يمكن أن تلعبه فيما يتصل بالعدالة والمصالحة – بالإجراءات الارتجالية التي تم تبنّيها خلال فترة “العدالة الثورية”، التي تعتبرها بعض المجموعات عمليات ملاحقة على أساس غير سليم لرجال الأعمال وكبار موظفي الدولة.
ثانياً، وبالنظر إلى الوضع الاقتصادي المتدهور، لا تستطيع البلاد انتظار توصيات لجنة الحقيقة والكرامة النهائية في عام 2018-2019. سيكون من الأفضل بالنسبة للحكومة أن تدعم سن قانون ينظّم، في ظل ظروف معينة، وضع التونسيين الضالعين في الفساد والتهرّب الضريبي. بدلاً من الدخول في إجراءات مصالحة من شأنها أن توفر فرصاً جديدة للمحسوبية والابتزاز، سيكون على هؤلاء أن يوكلوا أمر أصولهم لمحاسبين عامين معتمدين، يتحملون المسؤولية عن أية تصريحات زائفة، كأساس للتقييم الضريبي ودفع المبالغ المترتبة عليهم.
من أجل إنعاش الاقتصاد، ينبغي أن يكون رجال الأعمال قادرين على تحرير أنفسهم من إجراءات “العدالة الثورية” التي يزعمون أنها استهدفتهم على مدى السنوات الماضية. كما ينبغي أن يصبح بإمكان موظفي الدولة المتهمين بالاختلاس في ظل حكم النظام القديم جعل أوضاعهم نظامية. وبالمقابل، على الرئاسة والحكومة أن تقدما دعماً فعالاً لتعاون المؤسسات العامة الأخرى مع هيئة الحقيقة والكرامة، وضمان انتشار أنشطتها، وخصوصاً جلسات الاستماع العامة التي تعقدها.
وبموازاة مع ذلك، على الحكومة أن تعجل بصياغة وتنفيذ اجراءات لمكافحة المحسوبية والواسطة والفساد؛ وإعطاء الأولوية للحوار بين الأقاليم، خصوصاً بين رواد الأعمال في المناطق الحدودية، ومنطقة الساحل (الجزء الشمالي من الساحل الشرقي) والعاصمة؛ ووضع آليات شفافية جديدة للعروض والمناقصات العامة.
ينبغي ألاّ يكون الهدف تعديل آلية العدالة الانتقالية القائمة على أساس دستور كانون الثاني/يناير 2014، بل إيجاد أرضية مشتركة تعزز ثقة النخب السياسية فيها، بحيث يمكن لعمل هيئة الحقيقة والكرامة أن يتم في بيئة أكثر ترحيباً. على عكس التصور الواسع الانتشار، فإن تشجيع تنفيذ مسلسل العدالة الانتقالية هو في مصلحة الطبقة السياسية الحالية. من شأن تجديد الدعم السياسي لها ومواكبتها بإصلاحات فورية لمنع انتشار الفساد أن يقلّص من مخاطر الاستقطاب وأن يساعد على تفادي خيبة أمل التونسيين الكاملة من السياسة.
————–
نشرت المادة الأصلية في مجموعة الأزمات الدولية