الجدير بالملاحظة أن ثمّة تركيزا على البعد العسكري في الحرب الجارية على الإرهاب داخل سوريا والعراق وربّما ليبيا لاحقا، مع إهمال شبه كلي لسائر الأبعاد الأخرى، البُعد الثقافي والمتعلق بإصلاح العقول وتطوير الأذهان وتغيير المناهج والبرامج وتحديث الخطاب الديني في المساجد والمدارس والمجالس؛ هذا الخطاب الذي يوهم الناس بأنهم بين خيارين؛ إما أن يحفظوا دينهم فيتركوا الحداثة، وإما أن يدركوا الحداثة فيهجروا دينهم وهم في الآخرة من الخاسرين؛ هذا الخطاب الذي استطاع أن يوهم المسلم بأن العالم في حالة حرب على الإسلام، وأن الحرب على الإرهاب ليست سوى مرحلة متقدمة من مراحل الحرب الأبدية على الإسلام، ونحو ذلك من الوساوس العصابية التي تفسد الأذهان وتشوه الوجدان.
إنّ الجبهة العسكرية غير كافية وحسب، بل إنها في غياب الجبهات الثقافية والفكرية والتربوية، قد تحمل نتائج عكسية وقد تساهم في انتشار الدّمار على أوسع نطاق. ربّما ينحسر الوباء في مناطق معينة بفعل تركيز الجهود العسكرية والأمنية بكفاءة عالية، لكنه سرعان ما سينتشر في مناطق أخرى متفرقة. والواقع أن الداء ينبغي اجتثاته من مكمنه حيث يتجذر في البنيات الذهنية. إن قرار مجلس علماء بلجيكا مؤخرا بعدم السماح للمصلين أثناء صلوات الجمعة بالترحم على ضحايا اعتداءات بروكسل بدعوى أنهم ليسوا جميعهم مسلمين يعني أن جهودا مضنية تنتظرنا على أمل يتضاءل في إصلاح عقول محكمة الإغلاق. هناك قنابل موقوتة تسري في كافة مستويات الخطاب الديني السائد وتمنح للإرهاب القدرة على الانبعاث من رماده في أي لحظة وفي أي مكان وبنحو منفلت من عقال كل التوقعات. هل سنكتفي بالتعايش معه كداء مزمن أم ثمة فرصة للشفاء منه؟ هناك ثلاث ثغرات كبرى قد تطيل أمد الحرب على الإرهاب، بل قد تجعلها حربا بلا آخر.
ثمة أسئلة بديهية لا يمكن التغاضي عنها: من يدخل الحرب يحتاج إلى عتاد ملائم لطبيعة المعركة، فما هو عتادنا؟ من يدخل الحرب يحتاج إلى خطط مضبوطة في الزمان والمكان، فما هي خططنا؟ من يدخل الحرب يحتاج إلى تحالفات راسخة واضحة ثابتة، فما هي تحالفاتنا؟ من يدخل الحرب يحتاج إلى تعبئة شاملة في الرأي العام، فما هي مستويات التعبئة التي قمنا بها؟ وأما بعد، هل يعقل أن نكون مجرّد ظاهرة صوتية حتى في الحرب على إرهاب بات يهدد كياناتنا ووجودنا؟ كل ما نفعله الآن، أننا نلوك الكلام ونمني النفس بمعارك جانبية، ثم نلقي باللائمة على الغرب الصليبي، الصهيوني، الإمبريالي، المتواطئ، المتآمر. حين تتدخل أميركا لإسقاط الدكتاتورية كما فعلت في العراق نقول إن سبب الإرهاب هناك هو التدخل الأميركي. وحين تتأخر أميركا في التدخل، أو لا تتدخل أصلا، أو لا تتدخل بحزم، كما وقع في سوريا، نقول إن سبب الإرهاب هناك أن أميركا لم تتدخل كما ينبغي لمساعدة الثوار على إسقاط الاستبداد. حين يتدخل الجيش في السياسة كما يحدث في مصر نقول إن سبب الإرهاب هو تدخل الجيش في السياسة، وحين لا يتدخل الجيش في الصراع السياسي كما الحال في تونس نقول إن سبب الإرهاب أن الجيش لم يفرض كلمته في وقت مبكر. حين تتبنى الدولة الفصل التام بين الدين والدولة كما هو الحال في فرنسا نقول إن العلمانية الفرنسية أعاقت اندماج المسلمين وهذا هو السبب في انتشار الإرهاب عندهم، وحين تعترف الدولة بالمسلمين كطائفة دينية رسمية لها برامجها الدينية في المدارس والإعلام والعطل الرسمية كما في بلجيكا نقول إن الدولة هناك غضت الطرف قصدا عن تنامي الإرهاب. في زمن جورج والكر بوش قلنا إن سبب انتشار الإرهاب أن الرئيس الأميركي مغامر وعنيف، وفي زمن أوباما نقول إن سبب انتشار الإرهاب أن الرئيس الأميركي لين وضعيف. لا تعوزنا حيلة القول في كل الأحوال، مؤكدين أننا ظاهرة صوتية بامتياز. لكن لماذا لا نجرب مساءلة الذات ولو لمرة واحدة؟ ثمة ثلاث معضلات أمام الحرب على الإرهاب:
المعضلة الأولى، أنّ العالم السني الذي ننتمي إليه في المنشط والمكره، وهو المعني الأوّل بمحاربة الإرهاب، غير جاهز الآن، أو ليس بعد. وتتمثل عدم جاهزيته في ثلاثة مستويات: أوّلاً غياب خطاب ديني إصلاحي واضح وقادر على إزاحة خطاب الكراهية والتهييج. ثانياً ضعف دولة الحق والقانون باعتبارها الأداة الأساسية لكسب الحرب على الإرهاب. ثالثا ضعف مستوى الحريات الفردية وتردي قدرات المجتمع المدني.
المعضلة الثانية، تتعلق بغلبة الطابع الانفعالي على الخطاب الديني السائد، مع تهييج دائم لغرائز الغيرة والحمية والنصرة والغضب، على حساب تنمية القدرة على استعمال العقل. في المقابل لا تقيس السلطات الحاكمة الخطاب الديني سوى بمعيار وحيد: الموقف من الحاكم وهو معيار مخادع ومراوغ.
المعضلة الثالثة، لا شك أن قوانين الدّول الغربية في مسائل الأمن والجريمة والعقاب ونحو ذلك تتناسب مع مستوى تطور ثقافة الحرية والمسؤولية والالتزام داخل المجتمعات الحديثة. وهذا التطور هو المنحى العام لروح الحداثة السياسية. غير أن هذه الرّوح لا تتناغم مع بعض الخطابات الدينية لدينا التي لا تزال تمجد قيم التقية والبراء والتحجّب والتمكين والكتمان. وهذا سوء تفاهم ثقافي وأخلاقي كبير يجعل من إصلاح الإسلام داخل المجتمعات الغربية الحديثة أولوية قصوى. عدم استحضار هذه المهمة يعني أن الحرب على الإرهاب ستكون حرباً بلا آخر.
—–
المقال عن مجلة العرب