شهدت العقود التي تلت انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، في العام 1989م، مساعٍ واسعة النطاق وعميقة الأثر، من جانب المؤسسات التابعة لنظام الحكم الإيراني بمكوناته الخاصة التي تنفصل تمامًا في خططها وآلياتها التنفيذية عن المؤسسات الحكومية التقليدية، من أجل تحقيق الغرض الذي توقف عند حدود العراق وقت وجود الرئيس العراقي صدام حسين في الحكم، وهو تحقيق هيمنة النظام الذي أفرزته الثورة الإيرانية، بمكوناتها القومية، الفارسية، والمذهبية، الشيعية، على المحيط الإقليمي.
وثمَّة تنويرات واجبة في هذا الصدد؛ حيث إن المشروع الإيراني بعد ثورة العام 1979م؛ لا يتعلق بالمجال الحيوي لإيران في الخليج العربي؛ حيث إنه يمتد إلى آفاق أوسع من ذلك بكثير؛ حيث يمتد من الظهير الحيوي الإيراني في وسط وجنوب آسيا، في أفغانستان، وغيرها، وصولاً إلى التخوم الغربية الأقصى للعالم الإسلامي، في الجزائر والمغرب ونيجيريا، ومناطق أخرى من منطقة الساحل والصحراء.
التنوير الثاني، يتعلق بطبيعة المؤسسات التي تقوم بهذه المهام خارج حدود إيران، وتعمل على تأمين النظام الذي يوجهها، في الداخل.
وهو أمر شديد الأهمية، ويستحق دراسة مفصلة في حد ذاته؛ حيث إنه من بين الأمور الأساسية التي حرص عليها النظام الذي أفرزته الثورة الإيرانية على أن تكون له مؤسساته الأمنية والسياسية السيادية، التي تكون فوق سلطة الحكومة المعروفة.
ومن بين أهم هذه المؤسسات، “الحرس الثوري”، وذراعه الضاربة، “فيلق القدس”، ومؤسسة المرشد الأعلى، والتي تمثل مصدر إلهام لكل المؤسسات والمواطنين في إيران.
ولقد حرص الآباء الأوائل للثورة الإيرانية، على أن يكون لهذه الأمور أدواتها التي تؤسس لها وتؤصلها، سواء على المستوى المعنوي المجتمعي، أو المؤسسي والدستوري؛ بحيث تضمن تنفيذ سياسات بمثل هذه الخطورة والعمق، وعلى المدى الطويل.
ولقد أثبتت هذه الرؤية نجاحًا كبيرًا؛ فبعد أقل من ثلاثة عقود على الهزيمة العسكرية الإيرانية أمام العراق؛ فإن المشروع الإيراني الآن على قدر كبير من التمدد، سواء بالمعنى العسكري، أو المعنى السياسي فيما يتصل بالنفوذ.
وفي هذا الإطار؛ تسعى هذه الورقة إلى محاولة رصد بعض من معالم الأسس التي استندت إليها الدولة الإيرانية في تحقيق هذه الطفرة في التواجد الإقليمي، بالرغم من وجود عوائق كبيرة من جانب قوى إقليمية ودولية عديدة ليست بالسهلة، تواجه المشروع الإيراني، وتعمل على تعطيله، أو على أقل تقدير احتواؤه، بما في ذلك تقديم الدعم العسكري لخصوم إيران ووكلائها المحليين، أو فرض عقوبات، وما شابه من إجراءات.
ولكن تنبغي الإشارة في هذا الصدد، إلى أن محتوى هذه الورقة عندما يتحدث عن الاتجاهات العامة للمشروع الإيراني في الإقليم؛ فإنه لا يقدم صورة إيجابية أو سلبية؛ إنما يقدم بشكل موضوعي متكامل إشارات عامة حول الأسباب التي أدت إلى نجاح نظام الملالي في طهران، في تحقيق هذا التقدم.