لم يدُم التفاؤل كثيرًا بالاتفاق الذي تم التوصل في العاصمة الفرنسية باريس، في الخامس والعشرين من يوليو الماضي، بين كل من رئيس حكومة التوافق الوطني الليبية المدعومة من الأمم المتحدة، فايز السرَّاج، وقائد الجيش الوطني الليبي التابع لبرلمان طبرق المُعترف به دوليًّا، المشير خليفة حفتر.
فبالرغم من الأضواء التي أحاطت بالاتفاق، والتقارير التي أشارت إلى أنه قد يكون مفتاحًا للتوصل إلى حل لأزمة الانقسام في ليبيا، من خلال الاتفاق على وقف إطلاق النار عدا المناطق التي تشملها عمليات مكافحة الإرهاب – مناطق تمركزات تنظيم الدولة “داعش” والقاعدة بالأساس – ثم بدء عملية انتخابية شاملة بحلول ربيع العام 2018م؛ إلا أن بعض الحوادث التي جرت بعد الاتفاق؛ لا تبشر بصموده.
وعلى رأس هذه الحوادث، موضوع “التواجد” – يسميه البعض تدخلاً والبعض الآخر تعاونًا بحسب هذا الطرف أو ذاك – العسكري البحري الإيطالي في المياه الإقليمية الليبية، والذي برغم صغره؛ إلا أن له تأثيرات هائلة على الحدث الليبي، كما سوف نرى، بالإضافة إلى بعض التحركات التي قامت بها الأطراف التي كانت صاحبة القرار سلفًا قبل انتخاب البرلمان الحالي في طبرق.
وعلى رأس هذه الأطراف، مجموعة المؤتمر الوطني العام، الذي تم تشكيله بعد الإطاحة بنظام العقيد الليبي معمر القذافي، في أكتوبر من العام 2011م، ومن بينهم خليفة الغويل، رئيس ما يعرف بحكومة الإنقاذ، والتي تُعتبر امتدادًا للمجموعة التي أفرزها المؤتمر، مثل نوري بوسهمين، وعبد الله الثني، ممن هم على صلة وثيقة بالأتراك وحلفاء الإخوان المسلمين الإقليميين والدوليين، كما في الدوحة ولندن.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن أهمية الاتفاق تأتي من أنه في حالة نجاحه؛ فسوف يكون تجربة غير مسبوقة في نجاحها في إخراج بلد من العالم العربي والإسلامي، من تلك البلدان التي سقطت في الفوضى الهدامة، من حالة فشل الدولة هذه.
في هذا الإطار، تسعى هذه الورقة إلى تناول محتوى الاتفاق وفرص نجاحه وفشله، وأسباب سعي بعض الأطراف الأقليمية إلى إفشاله.
أولاً: نظزة على الاتفاق:
في البيان المشترك الصادر عن الاجتماع الذي جمع بين حفتر والسرَّاج، بحضور الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون؛ فإننا يمكن أن نرى المعالم الرئيسية للاتفاق على النحو التالي:
– أهم بنود البيان، هو اتفاق طرفَيْه على أن معالجة الأزمة الليبية لا يتم سوى بالوسائل السياسية، ومن خلال مصالحة وطنية “يشارك فيه كافة الليبيين”، تتضمن “العودة الآمنة للنازحين والمُهَجَّرين”، واعتماد إجراءات العدالة الانتقالية المتفق عليها بعد الإطاحة بنظام القذافي، وأقرها المؤتمر العام.
– يتفق الطرفان على العمل على تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية “في أقرب وقت ممكن” (من دون تحديد سقف زمني ولكن تقارير أشارت إلى موعد بين أبريل ومايو 2018م) بالتنسيق مع المؤسسات المعنية (لم يحددها البيان)، ولكنه أشار أن الانتخابات لم تمت، سوف تكون بدعم الأمم المتحدة وإشرافها.
– دعا الطرفان مجلس الأمن الدولي إلى دعم مسار التسوية السلمية في ليبيا، كما طلب من الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة – غسان سلامة – القيام بالمشاورات اللازمة بين مختلف الأطراف الليبية.
– فيما يخص الجوانب الأمنية؛ أكد الطرفان على التزامهما بوقف إطلاق النار، وتفادي اللجوء إلى القوة المسلحة في جميع المسائل الخارجة عن نطاق مكافحة الإرهاب، وحماية الأراضي الليبية وسيادة البلاد، كما التزما بإدانة كل ما يهدد استقرار ليبيا، كما اتفقا على العمل على دمج المقاتلين الراغبين في الانضمام إلى القوات النظامية، ونزع السلاح وتسريح باقي المقاتلين وإعادة دمجهم في الحياة المدنية.
– سياسيًّا، وفيما يخص شكل الدولة الليبية؛ تعهد الجانبان بالسعي إلى بناء دولة مدنية ديمقراطية ذات سيادة، تحترم سيادة القانون وتضمن فصل السلطات والتداول السلمي للسلطة واحترام حقوق الإنسان وتتمتع بمؤسسات وطنية موحدة، مما يضمن أمن المواطنين ووحدة الأراضي وسيادة الدولة.
وبشكل عام؛ فإن البيان حرص على التأكيد على دور الأمم المتحدة في مراقبة العملية السياسية والأمنية في ليبيا، فقد أكد على أن “اتفاق الصخيرات” الموقع في العام 2015م، برعاية الأمم المتحدة المرجعية الأساسية لتنفيذ ما جاء في “بيان باريس”، مع ضرورة وضع الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، في صورة أية اتفاقيات أو ترتبيات تتعلق بواقع ومستقبل ليبيا السياسي، والتحضير للانتخابات المقبلة.
ثانيًا: خلفيات الاتفاق والأدوار الرئيسية للاعبين الإقليميين والدوليين:
بادءًا ذي بدء؛ من نافلة القول التأكيد على أهمية الاتفاق بالنسبة لمصر، وبالتالي حجم الدور المصري فيه.
ولعل أهمية الاتفاق تبرز في أن المشرف على الملف الليبي في مصر؛ هو رئيس هيئة أركان القوات المسلحة المصرية، الفريق أول محمود حجازي، الذي يقود لجنة مكوَّنة من عناصر من وزارة الخارجية والمخابرات العامة، وكذلك من سلاح المخابرات الحربية والاستطلاع، وأطراف مدنية وعسكرية أخرى.
وقبل فترة عملت القاهرة، بالتعاون مع بعض الحلفاء الإقليميين، وعلى رأسهم أبوظبي، من أجل تحقيق هدف مهم في الموضوع الليبي، وهو توحيد الأجنحة السياسية التي يعتبر كلٌّ منها نفسه ممثلاً شرعيًّا لليبيا وشعبها.
ومن بين أهم هذه الأطراف، مما يتمتع بالشرعية القانونية والسياسية اللازمة، برلمان طبرق، الذي يحوز اعترافًا دوليًّا، والفريق الرئاسي، الذي يقوده السرَّاج، والحكومة التابعة له، والتي تُعرف بحكومة الوفاق الوطني.
وبالتالي؛ فقد عملت القاهرة وأبوظبي على جمع السرَّاج وحفتر الذي يُعتبر الذراع الضاربة وعامل التأثير الأقوى لبرلمان طبرق، في أكثر من مرة لإمكان ترتيب اتفاق مبدئي يتعاون بموجبه الطرفَيْن على تحقيق المستهدف المشار إليه، وهو توحيد المؤسسات والأمنية والعسكرية، وكذلك السياسية (التنفيذية والتشريعية) للدولة الليبية، وعلى رأسها المؤسسة الليبية للنفط والمصرف المركزي، باعتبار أنها من أهم من يمكن في مسألة تمويل الأنشطة المرتبطة بالإرهاب.
فلفترة طويلة، ووقت سيطرة ما يعرف حاليًا بحكومة الإنقاذ غير المعترف بها، ويقودها خليفة الغويل، قريب الصلة من محور أنقرة / الدوحة، كانت عائدات النفط واحتياطيات النقد الأجنبي في المصرف المركزي الليبي، أحد أهم مصادر تمويل عمليات شراء السلاح وحشد المقاتلين الأجانب في ليبيا، وخصوصًا القادمين من تونس ومصر، أو الذين سبق لهم القتال في سوريا.
وكان آخر لقاء جمع بين حفتر والسرَّاج قبل لقاء باريس؛ هو ذلك الذي عُقد في أبوظبي في الثاني من مايو الماضي، بعد فشل محاولة سابقة للجمع بينهما في القاهرة قبل ذلك بأسابيع قليلة.
وفي لقاء أبوظبي؛ تم إنهاء الجمود بين الشخصَيْن، وتم التوفيق في وجهات النظر بينهما بشكل مهَّد لـ”اتفاق باريس” الأخير، بل إن ما تم الاتفاق عليه في هذا اللقاء، كان هو تقريبًا ما تم الاتفاق عليه في باريس، باستثناء موضوع تشكيل هيكل جديد اسمه “مجلس رئاسة الدولة” الليبية، يضم كلاً من رئيس مجلس نواب طبرق، عقيلة صالح، مع كل من السرَّاج وحفتر.
فقد تم الاتفاق في أبوظبي على إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية بعد 6 أشهر من الاتفاق، وحل التشكيلات المسلحة وغير النظامية، ومواصلة محاربة الاٍرهاب.
وحتى ما يتعلَّق بأزمة الجنوب وقضية المهجَّرين والنازحين، والامتثال لجميع الأحكام القضائية التي تصدرها المحاكم الليبية، والتي تضمنها “اتفاق باريس”؛ جاءت فيما تم الاتفاق عليه في لقاء أبوظبي.
وتُعتبر القاهرة توحيد هياكل الدولة الليبية من أهم ما يمكن من أجل القضاء على أنشطة المسلحين الذين يستهدفون الأمن القومي المصري، وينطلقون من معاقل محددة هناك، مثل “درنة” التي كانت ولا تزال معقلاً مهمًّا لجماعات إرهابية، نفذت عمليات استهدفت الأقباط في مصر، وكانت آخرها حادثة المنيا في السادس والعشرين من مايو الماضي، وقتل نحو ثلاثين قبطيًّا كانوا في طريقهم إلى دير الأنبا صمويل في الظهير الصحراوي للمدينة.
شنت القاهرة على الإثر عمليات عسكرية في العمق الليبي، شملت مناطق في وسط وجنوب ليبيا؛ حيث كانت بعض الأطراف المناوئة لحفتر وبرلمان طبرق، داخل وخارج ليبيا، قد بدأت في توسيع نطاق جبهة المواجهة، وتغيير طرق الإمداد لقوات مجلس شورى ثوار بنغازي، وسرايا الدفاع عن بنغازي؛ حيث المعركة الأساسية بين حفتر وبرلمان طبرق من جهة، وبين خصومهما في الداخل وفي الإقليم.
وكانت أسوأ صور الصراع على هذه الجبهة؛ جنوب ووسط ليبيا؛ الهجوم الذي قامت به قوة تُعرف بـ”القوة الثالثة لتأمين الجنوب الليبي”، ويقودها أحد المنشقين عن حفتر، ويدعى جمال التريكي، في الثامن عشر من مايو الماضي، ضمن معارك السيطرة على مطار “سبها”، وقاعدة “تمنهنت” الجوية، وكلتاهما كانتا خاضعتَيْن للواء 12 مجحفل التابع للجيش الوطني الليبي الذي يقوده حفتر، ويقوده محمد بن نائل، الذي كان يقود عملية عسكرية تُعرَف باسم “الرمال المتحركة”، للسيطرة على المرافق العسكرية المهمة في هذه المناطق.
ولهذه المرافق، وأهمها قاعدة “تمنهنت”، أهمية قصوى في السيطرة على هذه المناطق، ووقف عمليات تهريب السلاح والمقاتلين عبر الحدود الليبية مع كل من تشاد والنيجر؛ حيث يلقى المقاتلون في بنغازي دعمًا مهمًّا من أطراف رسمية وغير رسمية في كلا البلدَيْن، استجابة لبعض الدعم الذي تقود به هيئات عمل “خيري” و”إنساني” قطرية، مثل “مؤسسة قطر الخيرية”، وتركية مثل “هيئة الإغاثة التركية” (تيكا)؛ حيث يتم حفر آبار وتقديم دعم إغاثي لسكان المناطق الصحراوية والنائية.
ويرى مراقبون أن التحركات المصرية في ليبيا، منسقة وموسعة النطاق؛ حيث يضع هؤلاء المراقبون أن التحركات المصرية تشمل كذلك ملف الضغوط الراهنة على قطر، والتي تتهمها القاهرة بأنها مع تركيا، أكبر داعمي الإرهاب في ليبيا ومنطقة الساحل والصحراء.
وبالفعل فإن تقارير أمريكية رسمية وأممية موثوقة، ربطت بين شخصيات موالية للقصر الحاكم في قطر، مثل عبد الرحمن التميمي، تحويلات تمت عبر بنوك لندنية، إلى شخصيات موضوعة على قوائم الإرهاب الأمريكية والأممية، وكذلك الأوروبية.
ولذلك، ساعدت القاهرة قوات الجيش الوطني الليبي الذي يقوده حفتر، وتحقق من وراء الدعم المصري لقوات حفتر أن حقق الأخير مجموعة من الانتصارات الحاسمة في الشرق والجنوب الليبيَّيْن؛ حيث حسم الدعم اللوجستي والعمليات المصري على وجه الخصوص، معارك “الجُفرة” و”سبها” في الجنوب، ومعارك بنغازي في شرق ليبيا، مما مثل تأمينًا كاملاً للحدود المصرية الليبية من الجهة الغربية.
وتعتقد دوائر في القاهرة أن أهم آثار الاتفاق في المجال الحيوي القريب، أنه – بالتضافر مع تعطيل آليات قطر وتركيا في دعم الجماعات الإرهابية الموجودة في ليبيا بحسب مراقبين – يضمن حالة من الاستقرار شبه الكامل في الجانب الغربي من الحدود المصرية الليبية.
كما أنه يضمن مصالح مصر الاقتصادية في الأنشطة الجديدة التي تتم في المنطقة العسكرية الغربية، مثل التبادل التجاري مع الليبيين، من خلال المعبرَيْن؛ معبر السلوم ومعبر سيوة الجديد، وهو ما سوف ينعكس في آثاره الأمنية والاقتصادية على مناطق غرب وادي النيل والظهير الصحراوي لمدن الصعيد..
الأثر الثاني، وهو إستراتيجي بعيد المدى؛ فقط ضمن لمصر تثبيت نفسها من جديد كفاعل إقليمي، وكان من الذكاء دمج فرنسا – وإيطاليا لاحقًا – في الأمر؛ لضمان حصول دعم الأوروبيين للجهد المصري، مع تحسين العلاقات مع إيطاليا التي توترت بعد ملف مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني في القاهرة.
كما قدم المصريون للإيطاليين بالحلول التي أوجدوها في ليبيا، معالجةً لأهم ملفات أمنهم القومي المؤلمة في الوقت الراهن، وهو الهجرة غير الشرعية.
وبالفعل؛ فإن التدخل العسكري المحدود لإيطاليا على السواحل الليبية، والذي جاء بطلب من السرَّاج، وأجازه البرلمان الإيطالي في مطلع أغسطس الجاري؛ يهدف بالأساس إلى دعم خفر السواحل الليبي في مواجهة موجات الهجرة غير الشرعية التي تفد عبر المتوسط إلى إيطاليا، والتي ارتفعت بنسبة 33 بالمائة في 2017م.
ويرتبط ذلك بالملف الأهم بالنسبة للأوروبيين، وهو الأمن؛ حيث إن غالبية الحوادث الإرهابية التي وقعت في أوروبا منذ العام 2015م وحتى الآن؛ ارتكبها مهاجرون غير شرعيين، أو مهاجرين من دول الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، ومنها ليبيا والمغرب وأفغانستان.
وحتى بريطانيا، التي لها اتفاقيات سرية مع الجماعات الجهادية، تعمل بموجبها على الأراضي اللندنية بكل حرية (حشد أتباع وانتقالات وتحويلات مالية وحماية قانونية للاجئين منهم الفارين من أوطانهم)، شرط عدم استهداف الداخل البريطاني أو مصالح بريطانيا الحيوية عبر العالم؛ حتى بريطانيا تعرضت لهجمات تورط فيها مهاجرون قادمون من ليبيا والشرق الأوسط.
ثالثًا: “اتفاق باريس” وإستراتيجية المحاور الدولية:
يقود التحرك الإيطالي الأخير إلى نقطة هي غاية في الأهمية في صدد هذا الاتفاق، وهو أنه يعتبر ضمن إطار أكبر، يتعلق بإستراتيجية المحاور الدولية والصراعات الراهنة التي تسود بين القوى الدولية الكبرى من فوق ومن تحت السطح.
بداية في هذا الإطار، ليس من قبيل المبالغة القول بأنه حتى الدور الفرنسي في الاتفاق الأخير؛ للحكومة المصرية دور فيه.
فقبل اللقاء الأخير بين السرَّاج وحفتر، ذكرت تقارير رسمية مصرية أن القاهرة عرضت خطة متكاملة على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتوحيد الحكم في ليبيا، ثم جرى لقاء حفتر والسرَّاج، و”إعلان باريس” بهذا المعنى بالضبط.
وهو ما يفسر تصريحات وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان التي قال فيها في حينه، إن العلاقات المصرية الفرنسية في الوقت الراهن “في أقوى حالاتها”.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن باريس، محور شديد الأهمية لاستبعاد الأطراف المدعومة من لندن والمحور الأنجلو ساكسوني، في المعادلة الليبية.
فخلال أشهر الحرب الأهلية الليبية، وحتى الإطاحة بالقذافي، وإلى الآن؛ تمثل لندن والشخصيات المدعومة منها أو من جانب الإدارة الأمريكية وقت الرئيس السابق باراك أوباما، أو من حلفائهم في الإقليم، كأنقرة والدوحة، مثل عبد العزيز بلحاج، والإخوان المسلمين؛ محور تحريك الأحداث في لييبا.
ومن خلال تقارير عدة نشرها موقع “بي. بي. سي”، فإن معادلة السياسة والحكم في ليبيا، في مرحلة ما بعد القذافي، رُسمت بموجب سلسلة من اللقاءات التي عقدها خصوم القذافي في لندن والدوحة على وجه التحديد، حتى قبل الإطاحة به، خلال العمليات التي شنها حلف شمال الأطلنطي “الناتو” لدعم الانتفاضة ضد القذافي.
ومؤخرًا بثَّت هيئة الإذاعة البريطانية، حلقة وثائقية مهمة ذكرت فيه كل ذلك، بل إنها قالت إن “الثورة الليبية” كانت مخططة من جانب وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “سي. آي. إيه” لاستكمال عملية بدأت قبل ثلاثين عامًا من الفوضى التي اندلعت في ليبيا للإطاحة بالقذافي. هكذا قيل نصًّا في هذا الوثائقي، وتم فيها المزج بين متطلبات إنهاء هذه العملية، وبين متطلبات تدعيم مخطط الفوضى الهدامة الذي دعت إليه كوندوليزا رايس في العام 2004م.
الطرف الوحيد القادر ولديه رغبة في معادلة نفوذ محور الشر الأنجلو ساكسوني هذا، وحلفائه في المنطقة، هو الاتحاد الأوروبي؛ فالأوروبيون يرون في سياسات المحور الأنجلو ساكسوني مساعٍ لإضعافهم، وزاد من هذه الشكوك والريب بين الطرفَيْن، الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي والذي كاد أن يزعزعه، فيما لو كانت قوى اليمين المتطرف قد وصلت إلى الحكم في الانتخابات البلدية والعامة والرئاسية التي جرت في دول أوروبية مؤثرة في الأشهر الأخيرة، مثل فرنسا والنمسا وهولندا.
فهذه القوى القومية بالأساس، تشجعت في دعواتها للخروج بدورها من الاتحاد الأوروبي، بالخطوة البريطانية، وبوصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
كما أنها الأكثر تضررًا في ملفَيْ الأمن والهجرة غير المشروعة، بسبب الأزمات التي أدت إليها سياسات إدارة أوباما في المنطقة، استغلالاً لما يُعرَف بالربيع العربي.
ونفس ما يُقال عن فرنسا التي عرفت أكبر عدد لضحايا الإرهاب في أوروبا منذ اندلاع احتجاجات 2011، (250 قتيلاً منذ هجوم “تشارلي إيبدو” في السابع من يناير من العام 2015م)؛ يُقال عن إيطاليا التي تعاني كما تقدم من موضوع الهجرة.
إلا أن التدخل الإيطالي له حساسياته التي قد تفتَّ في عضد الاتفاق. فهي أولاً قوة استعمارية قديمة يكره الليبيون تواجدها العسكري في بلادهم بسبب ميراث روما الاستعماري البغيض الذي ارتكب مجازر في حق أبناء الشعب الليبي.
ولكن لو تجاوزنا هذه النقطة؛ فإننا سوف نقف إلى أن الإجراء الإيطالي قد يعطل الاتفاق بالفعل من خلال حفتر وطموحاته الشخصية.
فحفتر يرغب في السيطرة على ليبيا، بينما داعموه يدركون أن أحد أهم أسباب الأزمة هو إقصاء من ورثوا الحكم من القذافي، لباقي المكوِّن الليبي، بما في ذلك القبائل والقوى المحلية التي كان القذافي يستند إليها، وربما كان ذلك سبب سقوط الإسلاميين في ليبيا.
فالوجود العسكري الإيطالي، وفق مراقبين؛ يراه حفتر معوقًا له في تطلعه لعملية عسكرية واسعة النطاق يسيطر فيها على طرابلس.
وهو تصور خطير منه؛ فإذا كان غير قادر على السيطرة على كامل بنغازي – للآن؛ أحياء قنفوذة والصابري، ليست تحت سيطرته بالكامل بالرغم من إعلانه السيطرة على كامل المدينة قبل أسابيع – فكيف سوف يكون قادرًا على القيام بعملية عسكرية إلى طرابلس نفسها، والمحاطة بقوى عسكرية كبيرة تناوؤه، ويمر في حملته على مدن بها حاميات عسكرية قوية معادية له، مثل “درنة”، بالإضافة إلى أنه كلما أوغل غربًا؛ ضعفت قدرة الطيران المصري والقوات المصرية على دعمه لوجستيًّا؟!
بطبيعة الحال؛ هي عملية مستحيلة، وهو غير قادر عليها. ولولا التدخل العسكري المصري الأخير بعد حادثة المنيا؛ لكان حفتر قد انتهى فعليًّا؛ حيث كانت سوف تطير مناطق الجنوب الليبي بالكامل من قبضته، وهو ما كان سوف يدعم خصومه في بنغازي ذاتها.
رابعًا فرص الاتفاق ومستقبله:
هناك عوائق عدة، بجانب مشكلة التدخل الإيطالي، والذي جاء بطلب من السرَّاج، مما سوف يزيد من الرِّيَب لدى حفتر في شأن غرض السرَّاج الحقيقي منه؛ حيث يرى حفتر أن السرَّاج يحصن نفسه بهذه الخطوة بينما لا يرى مراقبون ذلك؛ فلو اندلعت الحرب بين الطرفَيْن؛ فسوف يجبر البرلمان الإيطالي حكومته على سحب القوة البحرية الإيطالية الصغيرة من طرابلس.
من بين هذه العوائق، طموحات حفتر ذاته، بينما حلفاؤه لا يوجد لديهم بديل له، وفي حالة مصر؛ فإن حفتر بمثابة ضمانة لمصالح أمن قومي في منتهى الأهمية، وبالتالي؛ فإن القاهرة قد تضطر إلى الموازنة بين كبح جماحة وبين دعمه، بميزان دقيق.
ولكن العقبة الأهم برأي البعض؛ هي الأطراف التي تولت زمام الأمور في ليبيا بعد الإطاحة بالقذافي، وترى أن حكومات في الإقليم، مثل القاهرة والرياض وأبوظبي، قد تآمرت على الإطاحة بها، باعتبار أن هذه القوى من الإسلاميين، والإخوان المسلمين بالتحديد.
فهذه القوى، لا تزال تحتفظ بوجود عسكري وسياسي قوي في طرابلس نفسها، وجزء منها له ظهير مجتمعي وحزبي معترف به، مثل حزب البناء والتنمية المحسوب على الإخوان المسلمين، كما أنها لا تزال تحصل على دعم من حلفائها في قطر وتركيا، ومن وراءهم.
ومن آنٍ لآخر؛ نسمع عن قيام قوات أمنية وعسكرية تابعة لخليفة الغويل، باحتلال مقار سيادية مثل مجلس الدولة والهيئة التأسيسية، وبالتالي؛ فهي وفق مقتضى الأمر الواقع، حتى لو غاب عنها الاعتراف الدولي؛ فهي ذات تواجد حقيقي، وتحظى حتى بدعم خفي من الجزائر المجاورة، التي لنظامها مصالح مهمة مع الإخوان المسلمين، وتعتبرهم نقطة توازن مع الإسلاميين الآخرين الأكثر راديكالية في الجزائر التي لم تتعافى بعد من العشرية السوداء في التسعينيات.
كما أن القوى الدولية التي استثمرت الكثير في معادلة الخراب في ليبيا، وخصوصًا لندن وحلف شمال الأطلنطي (الناتو)؛ قد تتحرك بشكل مباشر أو غير مباشر لإفشال الاتفاق وأية إجراءات تم الاتفاق عليها، وخصوصًا الانتخابات.
وفي الأخير؛ تبقى جميعها تكهنات، أما ما سوف يحدث؛ فالأيام وحدها هي الكفيلة بالإجابة عليه.
———–
أحمد التلاوي: باحث مصري في شئون التنمية السياسية، وكاتب أساسي في مركز سام للدراسات الإستراتيجية