كانت الفترة التي تلت الانتفاضات الشعبية – الموجَّة في الغالب – التي عُرِفت باسم “الربيع العربي”، انعطافة حادة وغير متوقعة كذلك، بالنسبة لتيارات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة “الإخوان المسلمون”.
ولأن كانت هذه الانعطافة في بدايتها إيجابية، بحيث وصلت بجماعات إسلامية عدة – ولكن من خلال الإخوان المسلمين أساسًا – إلى الحكم ومناطق النفوذ والتأثير؛ فإنها بعد ذلك، تحولت إلى ما يُعرف في العلوم العسكرية، بـ”منطقة قتل”؛ حيث شهدت التجربة، وبالذات بعدما جرى في مصر في العام 2013م، الكثير من النكوصات.
ولكن، وقبل تناول ما نريد أن نتناوله في هذا الموضع، في صدد أثر التطورات الداخلية، وكذلك الإقليمية والدولية على واقع تيار ما يُعرف بالإسلام السياسي، أو الجماعات الدينية، وبخاصة الإخوان المسلمين؛ فإنه تجب الإشارة إلى أن هذه النكوصات لا تتعلق فقط بأثر سياسات أنظمة وحكومات الممانعة ضد الإخوان ومشروع “الإسلام السياسي” وجماعاته؛ وإنما تتعلق كذلك بأداء هذه الجماعات، وسياسات الإخوان المسلمين في فترة التمكين كما تُعرَف في أدبياتهم.
بدأ الربيع العربي بنتائج متباينة وإن كانت إيجابية بشكل عام بالنسبة للإخوان المسلمين؛ حيث وصل الإخوان إلى الرئاسة ورئاسة الحكومة في دول عربية عدة، من بينها مصر وتونس وليبيا والمغرب، والثلاثة الأولى من أيقونات الحالة الثورية التي جرت في العالم العربي، بجانب أنهم أصبحوا شريكًا مهمًّا في المنظومة السياسية في اليمن، في مرحلة ما بعد انتفاضة فبراير 2011م.
في المقابل خسروا أرضًا واسعة كانوا قد استحوذوها في الحالة السياسية والاجتماعية في دول الخليج العربي، عدا قطر، في العقود الماضية؛ وبدأت ملكيات وإمارات الخليج الوراثية تتخوف من أن يسعى الإخوان المسلمون هناك إلى تكرار تجربة مصر وتونس وغيرها من بلدان ما يُعرف بـ”الربيع العربي” هناك، وفق نظرية “حجر الدومينو”.
وبالتالي؛ فقد بدأت بعض هذه العواصم في التضييق على أنشطة الإخوان على أراضيها، وكان – وليس في الأمر أي تناقض – هذا التضييق في أوجه، في فترة وجود الإخوان في مقاعد الحكم في مصر وتونس، باعتبار أن كلا البلدَيْن كانا في حينه مصنَّفان باعتبارهما “أيقونة الربيع العربي”، وكانت الحالة الإخوانية في أقصى اتساع نشاطها، وكانت فكرة نقل التجربة إلى دول الخليج؛ قائمة وبقوة.
ولعل الإخوان المسلمين في هذا التخطيط، كان لديهم “بُعد نظر”، وأثبتت الحوادث التي تلت ذلك صحة وجهة النظر هذه؛ وكانت لديهم قناعة بأنه إذا ما استمرت ملكيات ومشيخات الخليج الوراثية بأنظمتها الحاكمة الحالية على هذا النحو؛ فإنه لا استقرار للأنظمة الجديدة التي أفرزتها الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية التي شهدتها.
وهذا تقييم موضوعي، ولا يتعلق بموقف قيمي من هذا الطرف أو ذلك، ومنه يمكن فهم دعم عواصم خليجية، مثل الرياض وأبوظبي على وجه الخصوص، لأنشطة وسياسات هدفت إلى إسقاط الإخوان والحكومات التي تعبر عنهم في بعض دول “الربيع العربي”.
وانطلق ذلك من قناعة أو حقيقة موضوعية بدورها، ومهمة، وهي أن الإخوان المسلمين طيلة العقود الماضية، استطاعوا من خلال منظومة من الإستراتيجية الاجتماعية والإعلامية والسياسية؛ أن يتحولوا إلى بديل حكم حقيقي في الكثير من البلدان العربية.
وعبَّرت هذه الحالة عن كفاءة سياسية وتنظيمية في واقع الأمر لدى الإخوان المسلمين، ومرونة كبيرة مكنتهم من كسب دعم عواصم دولية كبرى فاعلة في الشرق الأوسط، مثل لندن وواشنطن وبرلين، وذلك من خلال ملفَّيْن أساسيَّيْن، الأول هو المساعدة– الأمنية والمجتمعية من خلال الأطر التنظيمية للإخوان، مثل الجمعيات الإسلامية والأطر العلمائية التابعة لهم – في مكافحة الفكر المتطرف، والتحوُّل إلى محطة للإنذار المبكر للإنشطة الإرهابية العنيفة.
الملف الثاني، هو المساعدة– من خلال ذات الأطر– في دمج المهاجرين الجدد القادمين من بلدان الأزمات في الشرق الأوسط، وهو ملف أمن قومي مهم لدى الدول الغربية، والأوروبية بالذات.
في المقابل؛ مثَّل الوجود الاجتماعي والسياسي والكادر التنظيمي للإخوان بكل ما يتضمنه من قدرة على تحريك الشارع؛ فرصة مهمة للدول الكبرى من أجل ممارسة ضغوط على الحكومات والأنظمة العربية، في لعبة معروفة من جانب الغرب، منذ خروج الاستعمار المباشر من بين ظهرانيي الأمة.
وفي السياق؛ كان من المُستغرَب لدى الكثير من المتابعين سوء التقدير الذي لازم الإخوان المسلمين – وخصوصًا في مصر – لحقيقة الصورة، بحيث وقعت الجماعة في الكثير من الأخطاء التي توالت – بمنطق “نظرية الدومينو” كذلك – أدت إلى حالة الأزمة الراهنة التي طالت حتى التنظيم نفسه، سواء على مستوى التنظيمات القُطْرية، كما في مصر والأردن، وكذلك في المغرب بدرجة أقل – بعد تشكيل حكومة العثماني التي شعر الإخوان هناك فيها بالغبن– أو على مستوى التنظيم الدولي ذاته؛ الذي لم يعد برموزه، قادرًا على الحركة مثل سابق عهده.
في هذا الإطار، تناقش هذه الورقة معالم الأزمة الراهنة التي تواجه الإخوان المسلمين، سواء على المستوى القُطْري والإقليمي في عالمنا العربي، أو على المستوى الدولي، في ظل الاستحقاقات العديدة التي أفرزتها التطورات الآنية، وخصوصًا في مصر؛ باعتبار أن تنظيم الإخوان هناك، هو التنظيم الأم، وله رمزية ومكانة لائحية حاكمة، وكذلك على المستوى الإقليمي والدولي، وخصوصًا في سياق الأزمة الراهنة بين قطر – أحد أهم رعاة الإخوان الإقليميين في الوقت الراهن – وبين خصوم الإخوان الأهم والأقوى، مثل مصر والإمارات والسعودية، ومع كون الإخوان هم أحد أهم عناصر هذه الأزمة.
———–
أحمد التلاوي: باحث مصري في شئون التنمية السياسية، وكاتب أساسي في مركز سام للدراسات الإستراتيجية