ربما كان أحد أكبر الأخطاء التي وقعت فيها السياسة الخارجية التركية في الملف الكردي، هو الاستناد على مبدأ وجود أصدقاء لتركيا في أوساط الزعامات الكردية، وبمعنىً أكثر تفصيلاً؛ الاعتماد على مسعود البارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، كعصب ارتكاز لتمرير السياسات التركية فيما يخص أحد أهم الخاصرات الرخوة لأمنها القومي؛ وهو الموضوع الكردي.
فلئن كان من المنطقي أن يقوم أكراد شمال سوريا، بإعلان ما يُعرف بفيدرالية “روج آفا”، في الحسكة والجزيرة وعفرين ومناطق أخرى من شمال وشمال شرق وغرب سوريا، في ربيع العام 2016م، وبَدءوا في تكريس ذات النمط الذي تم في شمال العراق بعد الغزو الأنجلو أمريكي لهذا البلد في العام 2003م؛ فإنه لم يكن من المتوقع إطلاقًا أن يدعم البارزاني؛ صديق تركيا الأهم والوحيد ربما بين أكراد سوريا والعراق، الاستقتاء الذي أعلن عنه مؤخرًا أنه سوف يتم في سبتمبر المقبل، على انفصال إقليم كردستان العراق عن الوطن الأم.
وليس من المستغرب تصدير تركيا في هذا المجال من الحديث؛ حيث إنه بالرغم من أن إجراءات أكراد سوريا والعراق، تمس سيادة وشكل الدولة في كلٍّ من سوريا والعراق – بشكل بديهي – إلا أن الطرف الأكثر تأثُّرًا بهذا الإعلان – مهما كانت نتائج الاستفتاء بالمناسبة – هو تركيا التي تعرف منذ العام 1984م حربًا ضروسًا مع حزب العمال الكردستاني التركي، الذي يقاتل من داخل وخارج الحدود للانفصال بمناطق جنوب شرق تركيا، راح ضحيتها إلى الآن، ما يقرب من خمسين ألف قتيل.
وعبارة “خارج الحدود” هذه؛ شديدة الأهمية في شأن الموضوع التركي؛ حيث إن عمليات التعبئة والحشد تتم في مناطق تحت سيطرة الأكراد في شمال سوريا والعراق، وهؤلاء – الذين يدعمون أكراد تركيا الانفصاليين – هم الذين سوف ينظمون استفتاء الانفصال أو الاستقلال بحسب تعبير الأكراد.
النقطة المهمة الأخرى التي ينبغي الإشارة إليها في هذا الصدد، في مستهل مناقشة هذا الحدث الجلل بالفعل؛ هو أن التصويت في الاستفتاء، لن يتم فقط في المحافظات الثلاث التي يتشكل منها إقليم كردستان العراق، وهي: دهوك وأربيل والسليمانية، والتي تبلغ مساحتها حوالى أربعين ألف كيلومتر مربع؛ يقطنها حوالي 4 ملايين نسمة.
فالاستفتاء سوف يتضمن بحسب بيان كردي رسمي؛ “مناطق الأكراد خارج إدارة الإقليم”، ومن بين تلك المناطق مدينة كركوك، وبلدات: مخمور وخانقين وسينجار، وهي المناطق التي أعلن مساعد كبير لبارزاني، وهو هيمين هورامي، أن التصويت سيتم فيها أيضًا.
هذه المناطق هي أحد أهم العقد التي كانت ولا تزال في ملف أكراد العراق، وكانت أحد أهم أسباب النزاع المسلح الذي وقع في التسعينيات بين حكومة بغداد المركزية وقت حكم الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، والأكراد، وبالذات الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعمه البارزاني.
وخلال المفاوضات التي جرت بين صدام والبارزاني، وباقي المكوِّن الكردي، من أجل تهدئة الأوضاع في شمال العراق، وخروج القوات الحكومية كان منطق رفض صدام حسين منح الأكراد كركوك على وجه الخصوص، هو أن كركوك تعني استكمال مقدَّرات الدولة في إقليم كردستان العراق؛ حيث تضمن له وضعًا جيوسياسيًّا أفضل في شكل الدولة المزمعة، وكذلك تضمن له استكمال مقوماته الاقتصادية؛ حيث تحتوي على مكامن النفط الأهم في العراق، ومن بينها حقل بابا كركر العملاق.
كما أنها – مع المناطق الأخرى المشار إليها، تضمن عددًا أكبر من السكان للدولة المزمعة التي صارت قائمة بحكم الأمر الواقع أو ما يُعرف في القانون الدولي بالـ”De Facto” منذ العام 2003م (كركوك وحدها بها 750 ألف نسمة من الأكراد والعرب والأيزيديين وغيرهم) وغير ذلك من المفردات التي تجعل من كردستان العراق، كيانًا كوزموبوليتانيًّا قادرًا على إدارة أموره بشكل منفرد ومستقل، في مستوى الدولة.
ولذلك، كان من بين السياسات التي تبناها صدام حسين في كركوك بعد وضوح أطماع الأكراد فيها، ضمن سياسات مشروعهم الانفصالي، هو ما يُعرف بسياسة “التعريب” أو ما أطلق عليه خصوم نظام صدام حسين مصطلح “التهجير”؛ حيث عمد إلى نقل عشائر وعائلات عربية من مناطق الوسط والجنوب، وتوطينها في كركوك لموازنة الثقل الديموجرافي الكُردي هناك، وسَبْغ الطابع العربي على المدينة.
ولقد تعرضت هذه العائلات إلى اضطهاد في مرحلة ما بعد الغزو الأنجلو أمريكي للعراق، في العام 2003م، وجرى طرد عدد كبير منها إلى مناطقهم الأصلية في وسط وجنوب البلاد.
وفي هذه النقطة؛ فإن مشروع الاستفتاء الكردي في السياق الجيوسياسي المُحدَّد، إنما يمثل خطرًا كبيرًا على الدولة العراقية الراسخة في عمق التاريخ؛ حيث ضمن طيلة قرون طويلة، مكونات دينية وطائفية وقومية عدة، ما بين عرب وأكراد وأيزيديين وسُنَّة وشيعة، وغير ذلك من المكوِّن العراقي المعروف عبر التاريخ.
وهي نقطة البدء في مناقشة هذا الحدث الكبير؛ حيث سوف تعمد هذه الورقة لوضع القرار الكردي الجديد في سياقات السياسات التي تتبناها القوى الاستعمارية في عالمنا العربي والإسلامي، منذ البداية، والتي تقوم على أساس التفتيت والتجزئة، وإشغال الدول العربية والإسلامية بصراعات بينية وداخلية، من أجل تدميرها وتعطيلها عن مسارات النهوض والتنمية.
—————–
* أحمد محمود التلاوي، باحث مصري في شئون التنمية السياسية، وكاتب أساسي في مركز سام للدراسات الإستراتيجية