* أحمد التلاوي:
منذ يومه الأول في “الإليزيه”، بدت الإستراتيجية العامة التي يتبناها الرئيس الفرنسي الجديد، إيمانويل ماكرون، وتستند على مبدأ توحيد فرنسا، وإعادة التضامن الداخلي إليها، وتحسين الروابط والدعامات التي تستند إليها في السياق الإقليمي والمجالات الحيوية الأهم لمصالح الأمن القومي الفرنسية.
ففي خطاب التنصيب؛ أكد ماكرون على المبدأ العام، بأنه سوف يعمل على إعادة توحيد المجتمع الفرنسي، بعد ما ظهر من انقسامات عميقة فيه، لصالح اليمين المتطرف، والمتمثل في حزب الجبهة القومية، الذي تتزعمه ماريان لوبان.
وكان ذلك واضحًا في النسب التي حصدتها لوبان، سواء في الجولة الأولى للانتخابات التي جرت في الثالث والعشرين من أبريل الماضي، أو الجولة الثانية التي جرت في السابع من مايو (بين 21.5 بالمائة إلى 33.9 بالمائة على التوالي).
ومن الملاحَظ أن هذه النسبة تقترب كثيرًا من النسب التي حصدها حزبها في الانتخابات المحلية الفرنسية التي جرت في العام 2015م، وكانت أعلى ما تكون في مارسيليا ومناطق تجمع المهاجرين الأخرى.
ومصدر القلق الأكبر بالنسبة لماكرون وتيارات اليمين المعتدل والوسط واليسار الأخرى، في هذه المؤشرات، أنها تهدد – في ظل البرنامج الذي يتبناه حزب لوبان – التعايش الذي يُعتبر الركن الأساسي لاستقرار فرنسا، ذلك البلد المكوَّن في الأساس من خليط متعدد الأعراق والأديان، بما في ذلك حتى حَمَلة الجنسية الفرنسية، وترتبط مصالحه مع دول وكيانات كبرى إقليميًّا ودوليًّا، كان برنامج لوبان وحزبها يهددها في مقتل.
إلا أنه، ومن خلال منظومة القضايا التي أعلن ماكرون عن تبنيه لها، وأنها سوف تكون بمثابة أولويات له؛ فإنه لن يكون مغرقًا في المحلية كما يبدو، في ظل إدراك من جانبه ومن جانب فريقه، لحقيقة أن فرنسا لا تعيش وحدها في هذا العالم، وأن مصالحها الحيوية الأهم، مرتبطة بأهم دائرتَيْن جيوسياسيتَيْن حولها، وهما: الاتحاد الأوروبي، والشرق الأوسط، ولاسيما منطقة الساحل والصحراء حتى غرب ووسط أفريقيا.
وبالتالي؛ فإنه وبكل تأكيد؛ فإن ماكرون وسياساته التي سوف تحاول رأب الكثير من السوءات التي أدت إليها فترة رئاسة سلفه، فرانسوا أولوند، التي يجمع الكثير من المراقبين على فشلها، سوف تطال بكل تأكيد مصالح وقضايا عربية عديدة، كما سوف تسعى هذه الورقة لاستكشافه.
أولاً: دروس من اليوم التالي:
كانت أول خطوة تنفيذية للرئيس الفرنسي الجديد، تطبيقًا حرفيًّا لتعهداته الرئاسية، عندما عيَّن اليميني المعتدل، إدوارد فيليب، في منصب رئيس الوزراء، مع كون ماكرون الذي لا يتمتع بخلفية حزبية، محسوبًا على تيار الوسط، وأقرب إلى اليسار منه إلى اليمين، باعتبار ما طرحه برنامجه في مجال العدالة الاجتماعية وإصلاح الأجور.
كما كانت هذه الخطوة مهمة بسبب هجومه على اليمين المتطرف في حملته الانتخابية وخطاب تنصيبه، وبالتالي، ومع إدراكه بأن اليمين في فرنسا آخذٌ في الاتساع والسيطرة على الشارع؛ فإنه عمل على استقطاب اليمين الوسط بتعيين فيليب في هذا المنصب.
وفي أول اجتماع له مع الحكومة الجديدة، يوم الخميس الثامن عشر من مايو، دعا ماكرون أعضاء الحكومة إلى “التضامن”.
وفي رأي مراقبين؛ فإن تشكيلة الحكومة الجديدة هي أهم داعم لهذا التضامن؛ حخيث إنها تتكون من مختلف التيارات السياسية الفرنسية، بما حمل البعض على وصفها بانها تمثل عملية إعادة تشكيل للمشهد السياسي الفرنسي بالكامل؛ حيث تضم شخصيات من اليسار واليمين والوسط، وكذلك من المجتمع المدني، كما تناصف المناصب بين المرأة والرجل.
على المستوى الخارجي، كانت أول لقاءات ماكرون الخارجية، هو قمة سريعة عقدها مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
ويُعتبر هذا اللقاء من الأهمية بمكان بالنسبة لمصالح أمن قومي تُعتبر الأهم بالنسبة لفرنسا، وهي تلك المتعلقة بنقطة تأثير فرنسا الأهم في دائرتها الأهم؛ أوروبا، وهي الاتحاد الأوروبي.
فمع صعود التيارات اليمينية في أكثر من بلد أوروبي كبير، بما في ذلك قاطرات الاتحاد الأوروبي ذاتها، مثل ألمانيا والنمسا وفرنسا نفسها، بالإضافة إلى دول شرق أوروبا، حديثة العهد نسبيًّا بالانضمام إلى الاتحاد؛ تزايدت الدعوات إلى خروج هذه البلدان من الاتحاد الأوروبي، بما يعني تفكك الاتحاد بالمعنى الحرفي للكلمة.
وفي هذا الصدد، تضمن برنامج ماكرون إنشاء وزارة للاقتصاد والمالية والميزانية لمنطقة اليورو، تعمل على توجيه الاستثمارات والدعم المالي العادي والخاص للظروف الطارئة، لدول منطقة اليورو التي تُعتبر قلب الاتحاد الأوروبي.
كما تشمل خططه لتعزيز الاتحاد الأوروبي، ودور فرنسا فيه، إنشاء صندوق نقد أوروبي، ومجلس أمني أوروبي.
وهناك في هذا الإطار، العديد من الشكوك التي تمس ملفًّا من أهم ما يمكن بالنسبة للقضايا العربية في هذا الصدد، وهو قضية الإرهاب ونشاط الجماعات التكفيرية المتطرفة.
تتعلق هذه الشكوك بوجود طرف خفي مرتبط بمحور إقليمي ودولي مهم وفاعل، يمتد من الدوحة وحتى لندن، مرورًا بأنقرة، يدعم الأنشطة العُنْفية المسلحة التي وقعت في الكثير من بلدان أوروبا في غضون السنوات الأخيرة، وذلك من أجل تدعيم التيارات اليمينية المعارضة للانفتاح الذي تفرضه عضوية الاتحاد الأوروبي على الإقليم والعالم الخارجي، وخصوصًا فيما يتعلق بقضية المهاجرين سواء الشرعيين، أو غير الشرعيين القادمين من مناطق الأزمات في العالم العربي والإسلامي، وخصوصًا أفغانستان وباكستان والعراق وإقليم كردستان، بالإضافة إلى سوريا وليبيا بطبيعة الحال.
ويدعم من الرِّيَب العديدة في هذا الصدد، أكثر من مؤشر، أولها تورط مهاجرين في هذه الهجمات، التي راح ضحيتها في فرنسا وحدها، أكثر من 250 شخصًا منذ 2015م، وثانيها، أنا استثنت بريطانيا التي قادت حِراكًا متزامنًا للخروج من الاتحاد الأوروبي، أحدث هزة عميقة في الاتحاد، مع تقديم الموقف البريطاني دعمٍ غير مباشر للتيارات التي ترفع شعار ترك الاتحادـ وكان من بينها لوبان وحزبها نفسيهما.
ومن هنا نفهم أولاً لقاء ماكرون مع ميركل، وثانيًا تصريحاته في صدد اتجاه بلاده التي تمثل مع ألمانيا أكبر قاطرات دعم مشروع الاتحاد الأوروبي، إلى التشدد مع بريطانيا في شروط خروجها من الاتحاد الأوروبي، بحيث لا تحصل بريطانيا على المكاسب المتوقعة في هذا الصدد، مثل حرية التجارة مع بلدان الاتحاد، وحركة الأموال، وما إلى ذلك مما تتطلع إليه لندن.
وهو ما يرتبط بإستراتيجية ماكرون في أحد أهم الملفات التي أعلن أنه سوف يحقق فيها اختراقًا، وهي ملف الأمن ومكافحة الإرهاب، وهو ما سوف يتماس بكل تأكيد مع مشكلات المنطقة، ولاسيما أزمات وقضايا الشمال الأفريقي، والأوضاع في سوريا.
ثانيًا: القضايا العربية وملف الإرهاب في برنامج ماكرون:
يُعتبر ملف مكافحة الإرهاب وتحقيق الأمن من أهم الملفات والقضايا التي تشغل بال الرأي العام الفرنسي.
وفي ظل التسييس الواضح لهذا الملف في أوروبا، ووضوح استهداف الاتحاد الأوروبي كمظلة إقليمية قوية تنافس على الساحة الدولية في الوقت الراهن؛ فإن ماكرون وضع نصب عينيه الجانب أو الشق السياسي لملف الإرهاب، باعتبار أن المكافحة الأمنية تأتي في الدرجة التالية في الفاعلية؛ حيث الجانب السياسي هو الأهم.
في هذا الصدد، أشارت تقارير خاصة، إلى أن أول خطوة في هذا الصدد، سوف تكون من خلال بريطانيا؛ حيث ماكرون على استعداد لتقديم بعض “التسهيلات” للندن كخروج آمن من الاتحاد الأوروبي ينقذ حكومة المحافظين الحالية والتي من المتوقع أن تستمر بعد الانتخابات المبكرة المقررة في يونيو المقبل، في مقابل أن تمارس لندن ضغوطًا على حلفائها الذين يقدمون دعمًا للجماعات الجهادية، في منطقة الشرق الأوسط، ولاسيما في سوريا، وفي ليبيا ومنطقة الساحل والصحراء.
وتقارير الأمم المتحدة في هذا الصدد، غير سرية؛ حيث الدعم التركي والقطري بالمال والسلاح والمقاتلين، واضح لجناح طرابلس في ليبيا، وكذلك المقاتلين المعارضين لنظام الرئيس بشار الأسد في سوريا، بالإضافة إلى دعم مجموعات راديكالية تقاتل في مالي ومنطقة الصحراء الكبرى.
وكشف تقرير للأمم المتحدة صدر في يناير 2015م، أن هناك شخصيات مرتبطة بالأسرة الحاكمة في قطر، من بينها عبد الرحمن التميمي، عملت على تحويل أموال من خلال مصارف لندنية، إلى مثل هذه المجموعات الناشطة في مالي وليبيا، وتورط شركات نقل تحمل الجنسية القبرصية، يملكها بلال أردوغان، نجل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وترتبط هذه المجموعات بعصابات الاتجار في البشر والهجرة المشروعة، وبالتالي؛ فإن التحرك في اتجاه السيطرة على هذا الملف؛ هو أحد أهم مفاتيح السيطرة على الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا من الشرق الأوسط وإقليم الساحل والصحراء، والذي يرتبط بدوره – كما تقدَّم – بخلايا العنف الكامنة في الكثير من بلدان أوروبا وتنشط بمجرد أخذ المسؤولين عنها لقرارهم السياسي.
ولا ينفصل هذا الملف عن موضوع الحرب في سوريا؛ حيث الارتباط العضوي الوثيق بين ما يجري هناك وما يحدث في شمال أفريقيا وإقليم الساحل والصحراء، سواء لجهة نوعية المهددات أو الأطراف التي تسيطر عليها.
ومن هنا أبدى ماكرون أكثر من إشارة خلال الفترة الأخيرة التي سبقت الانتخابات، وفي برنامجه، نيته تحسين مشاركة فرنسا في العمليات التي يقوم بها التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في كلٍّ من سوريا والعراق، مع السعي إلى ممارسة دور دبلوماسي أكبر تأثيرًا باتجاه إيجاد حلٍّ سياسي في سوريا، يتضمن رحيل بشار الأسد.
ويرتبط بذلك اتجاه مهم أبداه ماكرون خلال فترة الحملة الرئاسية، وهو تحسين العلاقات مع دول الجوار في شمال أفريقيا والعالم العربي بشكل عام؛ حيث زار الجزائر في فبراير الماضي، وقدم اعتذارًا عن تاريخ فرنسا الاستعماري في هذا البلد.
وبالرغم من أن عدم الاعتذار عن جرائم المرحلة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر هو سياسة رسمية لباريس، وأن ماكرون في ذلك الحين، لم يكن في منصب رسمي؛ إلا أنه تبقى لهذه الواقعة دلالات كبيرة في صدد الكيفية التي ينظر بها ماكرون إلى الجار الجزائري.
فالجزائر في مخططات ماكرون، هي شريك أساسي في تحقيق إستراتيجيته السياسية والأمنية في هذه المنطقة، التي تُعتبر الأهم في السياسة الخارجية الفرنسية بعد أوروبا؛ حيث مصالح فرنسا الأمنية، وكذلك والاقتصادية الأهم في مصادر اليورانيوم والبوكسايت والنفط وغير ذلك، في تشاد والنيجر وكوت ديفوار ونيجريا، وغيرها من بلدان منطقة الساحل والصحراء وامتداداتها في غرب أفريقيا.
وفي الخلفية، يبرز كذلك العامل البريطاني؛ حيث بريطانيا ضمن التحالف الأنجلو ساكسوني الذي يضم مع لندن، كلاُّ من الولايات المتحدة وشركاء أنجلو ساكسون آخرين، لا يزالون يديرون صراعات النفوذ الاقتصادي والسياسي، في هذه المناطق، بالعقلية الاستعمارية القديمة، ولا يزال التنافس الفرنسي – الأنجلو ساكسوني هناك على أوجه.
وهو النموذج التفسيري للانقلابات والانقلابات المضادة التي كانت تشهدها هذه المناطق حتى العام 1999م، قبل أن تنتقل الصراعات بعد ذلك إلى أدوات أخرى، مثل الجماعات العُنْفية المسلحة، وشركات الأمن الخاصة، وغير ذلك.
ومن خلال برنامج ماكرون الرئاسي؛ فإن هناك خلية استخبارية خاصة سوف يتم إنشاؤها خصيصًا لملاحقة تنظيم الدولة “داعش”، وهو ما يعني أن هناك تعاونًا استخباريًّا أكثر قوة سوف ينشأ مع الجزائر ودول عربية أخرى، مثل المغرب وتونس، بالإضافة إلى مصر بطبيعة الحال، والتي تحولت في عهد الرئيس الحالي، عبد الفتاح السيسي، إلى أحد أهم شركاء فرنسا العرب العسكريين والسياسيين.
كما أن هناك تقارير تشير إلى أن ماكرون بصدد تأسيس روابط أكثر فاعلية مع الأطراف النافذة في ليبيا، وتتمتع باعتراف دولي، وعلى رأسها برلمان طبرق الذي يتبعه ما يُعرف بالجيش الوطني الليبي، الذي يقوده خليفة حفتر، والمجلس الرئاسي الذي يقوده من طرابلس، فايز السراج، ومدعوم من الأمم المتحدة.
وهذه الخطوات لها امتداداتها في الداخل الفرنسي، سوف تؤثر على أوضاع العرب والمسلمين المقيمين في فرنسا، وخصوصًا المهاجرين من غير حَمَلة الجنسية، والمهاجرين غير الشرعيين.
فهو ينتوي تعزيز قدرات الشرطة الفرنسية على الحدود الأوروبية، وتشديد الرقابة عليها، لمنع تدفق المهاجرين منها، و”تأهيل” الأئمة، وتحسين وتيرة البت في طلبات اللجوء، لكي لا تتجاوز الثمانية أسابيع، من أجل إنهاء ظاهرة المخيمات التي تقود إلى مشكلات أمنية عديدة، كما حدث في مخيم الغابة في كاليه، قرب بحر المانش.
وفي الأخير؛ يرى كثيرون أن التحديات التي يواجهها ماكرون قد تكون أكبر من طموحاته وحماسته، خصوصًا وأنه لا يملك حزبًا يدعمه في الجمعية الوطنية الفرنسية، ولكن آخرين يرون أن الظرف الدقيق الذي تمر به الأمة الفرنسية سوف يدفع جميع الأطراف إلى التعاون معه، وعزز ذلك هو بحكومة تضم جميع الأطياف.
—————–
* أحمد محمود التلاوي، باحث مصري في شئون التنمية السياسية، وكاتب أساسي في مركز سام للدراسات الإستراتيجية