* أحمد التلاوي:
لا يبدو من أنه قد حقق الكثير، بل يبدو حتى وكأنه قد تراجع إلى الخلف خطوات عدة، قد تحكم عليه بالفشل في تسلَّم عهدة رئاسية ثانية. هذه هو المضمون العام للعديد من التقديرات التي خرجت في الفترة الأخيرة في تقييم فترة المائة يوم الأولى من الولاية الرئاسية الأولى للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب.
وفي هذا الإطار؛ فإننا نلمس في سياسات وقرارات ترامب في هذه الفترة شكلاً من أشكال الاستعجال في تنفيذ بعض البنود التي سبق له وأن أعلن عنها في برنامجه الرئاسي، والتي انصب الكثير منها على تصفية إرث سلفه الديمقراطي باراك أوباما.
وفي ذلك، ومع كونه بالفعل رئيسًا من خارج المؤسسة التقليدية الحاكمة؛ حيث لم يتولى أي منصب تنفيذي كبير قبل ترشيح نفسه للرئاسة، أو حتى عمل في الأنشطة السياسية الإستراتيجية لحزبه؛ فقد اصطدم ترامب في كثير من القرارات والمواقف والقرارات بأحد أهم أعمدة الدولة الأمريكية، وهو الصلاحيات الدستورية للمؤسسات.
وهو السبب الرئيسي في “التخبط” الحالي الذي تواجهه قراراته؛ حيث إن ترامب لا يدرك – باعتباره رجل أعمال وإعلامي في الأساس – أهمية وخطورة نقطة الصلاحيات الدستورية لمؤسسات الدولة؛ حيث إن احترام هذه الصلاحيات، وفق مبدأ الفصل الكامل بين السلطات الذي تعتمده الدولة الأمريكية منذ تأسيسها؛ هو ضمانة وحدة الولايات المتحدة ذاتها، وعدم خروج أيٍّ من الولايات التي تملك إمكانيات كوزموبوليتانية لكي تحيا كدولة مستقلة؛ عن الاتحاد الفيدرالي.
وهو ما بدا بشكل صريح في منظومة قراراته التي تبناها فيما يخص مسألة منع دخول مواطني عدد من الدول العربية والإسلامية؛ حيث اصطدم بصلاحيات المحاكم الفيدرالية والولائية، وكذلك بصلاحيات عُمَد ومسؤولي بعض الولايات الذين رأوا في القرارَيْن الذين أصدرهما في هذا الشأن، ما يضر بمصالح ولايتهم الاقتصادية والاجتماعية.
بل إن ذلك اصطدم حتى ببعض الشرائح داخل حزبه، من الرموز والشخصيات الأكثر خبرة سياسيًّا، ممن هم على اطلاع بدقائق وكواليس السياسة الأمريكية، ويدركون أن الأمور أعقد من الطريقة التي يتصورها بها ترامب.
كما بدأت فترته باضطرابات كبيرة في تعييناته في المناصب الكبرى؛ حيث واجه الكثير من الحرج في مسألة مايكل فلين، الذي عينه في منصب مستشاره للأمن القومي، ثم اتضح أنه قد خالف القانون الأمريكي في نقطة شديدة الأهمية لا يمكن التجاوز عنها، وهي عدم اتصال أي مواطن أمريكي ليس في منصب رسمي، بجهات دبلوماسية رسمية أجنبية، وهي هنا، السفارة الروسية في واشنطن.
وبدت تأثيرات هذا كذلك في تراجعه عن كثير من قرارات التي تعهد بأخذها في بداية عهدته الرئاسية، كما كان يؤكد في برنامجه الانتخابي، مثل بناء الجدار الحدودي مع المكسيك، ووضع جماعة “الإخوان المسلمون” على قائمة المنظمات الإرهابية.
ولكن لا يمكن أخذ هذا الوضع على إطلاقه؛ حيث إن فترة المائة يوم الأولى له، كانت كما يبدو كافية له لكي يتواءم – وهو صاحب الشخصية المندفعة – مع الكثير من الأمور، بحيث بدت قراراته وسياساته أكثر هدوءًا وتركيزًا، وبالتالي؛ إصابةً للهدف.
وهو ما بدا في موافقة مجلس النواب الأمريكي في الرابع من مايو الجاري، على إسقاط مشروع “أوباما كير” وإقرار قانون ترامب للرعاية الصحية.
وهو أول انتصار حقيقي لترامب، وجاء بعد استكماله لبناء فريق موظفيه الرئاسي، وإعادة تقييم الموقف فيما يتعلق بعلاقته مع مؤسسات الدولة الأخرى، وفهمه لسياقاتها، وأهمية مراعاة نقطة الصلاحيات القانونية والدستورية.
في هذا السياق، خاض ترامب حربًا صريحة وواضحة مع وسائل الإعلام التي عارضت برنامجه الرئاسي اليميني الشعبوي، ووجدت فيه مساسًا بمصالح الولايات المتحدة الحيوية، وكذلك بالقيم الأمريكية المعلنة في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتهديدًا للكثير من أركان الهيمنة الأمريكية الدولية.
فقاطع صحفًا ووسائل إعلام هاجمته صراحةً، مثل النيويورك تايمز وهيئة الإذاعة البريطانية، وقاطع – كذلك – حفل العشاء السنوي لرابطة مراسلي البيت الأبيض، في التاسع والعشرين من أبريل الماضي، وفضل قضاء اليوم مع أنصاره!
ملف الإخوان وتعقيداته
وهو من بين الملفات التي أبرزت حجم جهل ترامب بحقائق السياسة الأمريكية التي لم يكن يعرفها لأنه – بالفعل – قادم من خارج أية خلفية ترتبط بالمؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة، ودهاليزها الحزبية والتنفيذية، وبالتالي؛ فقد اصطدم بها.
فالإخوان المسلمون من المعروف، وكما ثبت بالوثائق في السنوات الأخيرة، حتى من قبل سنوات الربيع العربي، والتي أُفرج عنها بموجب قانون حماية المعلومات في بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة، من أهم الأذرع الوظيفية للتحالف الأنجلو ساكسوني في المنطقة العربية والعالم الإسلامي.
وهو ما بدا خلال فترة الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، وما تلا ذلك من أحداث كبرى في المنطقة العربية، وحتى ما بعد ما عُرِف بالربيع العربي.
كما أن مرامي ترامب في هذا الصدد، اصطدمت مع أجندته هو والتي وضع على رأس أولوياتها موضوع مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط، والذي رأى أنه لن يتحقق من دون إغلاق ملفات الأزمات المشتعلة في المنطقة، وعلى رأسها ليبيا واليمن وسوريا، والتي تمثل أكبر تهديد للأمن القومي للحلفاء الأوروبيين، والذين تتحمل الولايات المتحدة العبئ الأكبر في الترتيبات الأمنية الخاصة بهم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، من خلال حلف شمال الأطلنطي “الناتو” وأطر أخرى.
فالإخوان المسلمون شركاء حكم في أكثر من بلد عربي مهم في منظومة الاستقرار الذي يسعى ترامب إلى إقراره في المنطقة، مثل الجزائر والمغرب والأردن، وبالتالي؛ فإن قرار شائك مثل هذا، سوف يؤثر في قدرة إدارته على التأثير في قرار هذه البلدان التي تريد أن تحافظ على الهدوء الداخلي فيها، وهو ما يتفق مع مرامي ترامب.
وبالتالي؛ فقد اصطدم ترامب بالقلب الصلب للمؤسسة الأمريكية، التي أطلعته على كثير من الحقائق في هذا السياق؛ حيث صدرت تقارير صحفية في فبراير الماضي، تشير إلى أن ترامب تلقى تقريرًا من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “سي. آي. إيه”، يحذر فيها من مثل هذه الخطوة التي قال إنها سوف تضعف من تأثير واشنطن إقليميًّا، في ظل هيمنة الإخوان في أكثر من بلد عربي وإسلامي، سياسيًّا واجتماعيًّا، وعلى ما قال التقرير بأنه أهمية الإخوان في التصدي لملف مكافحة الإرهاب، الذي هو أولوية لدى ترامب كما تقدَّم.
—————–
* أحمد محمود التلاوي، باحث مصري في شئون التنمية السياسية، وكاتب أساسي في مركز سام للدراسات الإستراتيجية