محمد جمال:
قبل الربيع العربي، ظلت قوي سياسية حكومية وليبرالية ويسارية تطالب التيارات الاسلامية –خصوصا جماعة الإخوان المسلمين– بالتخلي عن الجماعة، وإنشاء حزب سياسي، وعدم “خلط العمل الدعوي بالسياسي”.
وعقب الربيع العربي، عادت نغمة الفصل تتردد، ولكن لم يأبه لها الاسلاميون، بعد وصول أبرز حركاتهم للسلطة في مصر وتونس، حتى جاءت الثورات المضادة وإفشال الربيع العربي بانقلابات عسكرية أو تدخلات مما سمي “أجهزة الدولة العميقة”، أصحاب المصلحة في إبعاد الاسلاميين عن الحكم، لتجدد القضية.
وساهم في تصعيد الجدل حول هذا الفصل وتشكيل أحزاب سياسية بدلا من الجمعيات الاسلامية، الصراعات التي نشبت بين أبناء التيار الاسلامي الواحد حول اسباب فشل الربيع وحكمهم، خصوصا في مصر، حتى بدأت أراء في تونس ومصر تشير لصواب هذا الخيار الجديد في ظل المعطيات الجديدة، التي لن تسمح لهم بالعودة للسياسية بجمعياتهم الاسلامية.
لذلك جاء إعلان زعيم حركة النهضة الإسلامية في تونس أن الحركة ستفصل نشاطها السياسي عن النشاط الديني، ليحمل تفسيرات عديدة: الغربيون والليبراليون اعتبروها “خطوة للنأي بنفسها عن الإسلام السياسي”، والاسلاميون المتشددون اعتبروها تخلي عن الثوابت، ومقربون من النهضة، اعتبروها تطورا طبيعيا للعمل السياسي الاسلامي في أجواء معادية.
وقال محللون إن التغييرات التي أعلنتها الحركة تمثل فيما يبدو محاولة لتمييز نفسها في منطقة مني فيها الإسلام السياسي بانتكاسات كما تهدف أيضا للاستعداد للانتخابات المحلية المقررة في العام القادم والانتخابات الرئاسية المقررة في 2019.
تغيير الموسيقي ومواصلة الرقص
وقال أخرون إن النهضة لم تتغير ولكنها استوعبت التغييرات الإقليمية وما حصل للإخوان في مصر، وأدركت أنه قد تخسر دورها كلاعب رئيسي في تونس لو ظلت بشكلها القديم ممثله للإسلام السياسي، واصفين ما فعلته النهضة بالمنطق الغربي بانها “غيرت الموسيقى فقط ولكنها ستواصل الرقص”.
فالنهضة أول حركة إسلامية تصل للحكم بعد انتفاضات الربيع العربي في 2011 وكونت ائتلافا حكوميا عقب الإطاحة بالرئيس السابق زين العابدين بن علي، وكانت المؤشرات تؤهلها لخسارة الحكم تماما في تونس بعد انقلاب مصر العسكري ضد حكم الاخوان، ولكنها تعاملت بحرفية مع الامر.
وانتهي الامر، بعد انحناء النهضة للعاصفة، لصياغة دستور جديد وإجراء انتخابات حرة وتوافق سياسي بين الإسلاميين والعلمانيين جنب البلاد الانزلاق في الفوضى التي اجتاحت بعض بلدان المنطقة.
وعلى عكس جماعة الإخوان المسلمين في مصر التي أطيح بحكمهم وتم الزج بالآلاف من أنصارها في السجون عقب انقلاب السيسي العسكري عام 2013، تمكنت حركة النهضة من الصمود بعد تنازلها عن السلطة في 2013 إثر صراع مع العلمانيين.
فعقب الإطاحة بالإسلاميين في مصر تخلت النهضة عن الحكم ودخلت في حوار مع خصومها العلمانيين انتهى بالتوافق حول دستور جديد وحكومة غير حزبية قادت لانتخابات في 2014، وفي انتخابات 2014 حلت النهضة ثانية خلف حزب نداء تونس، ولكنها الان باتت التيار الاكبر بسيطرتها على 69 مقعدا، بعد انقسامات حزب “نداء تونس” وفقده الاغلبية.
التحول على الطريقة التركية
وسط الآلاف من الحضور، قال راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة الإسلامية في افتتاح المؤتمر العاشر للحركة: “حريصون على النأي بالدين عن المعارك السياسية وندعو إلى التحييد الكامل للمساجد عن خصومات السياسة والتوظيف الحزبي لتكون مجمعة لا مفرقة”، ما اعتبره كثيرون تحولا نحو “علمنة” الحزب على الطريقة التركية.
الغنوشي حاول تبرير التحول بأنها ضرورات العصر قائلا: “تطورت الحركة من السبعينات إلى اليوم من حركة عقدية تخوض معركة من أجل الهوية إلى حركة احتجاجية شاملة في مواجهة نظام شمولي دكتاتوري إلى حزب ديمقراطي وطني متفرغ للعمل السياسي بمرجعية وطنية تنهل من قيم الإسلام”.
أيضا، أوضح راشد الغنوشي، في حوار نشرته جريدة لوموند الفرنسية، أول أمس، أن الحركة ستخرج من الإسلام السياسي لتدخل في الديمقراطية المسلمة: “نحن مسلمون ديمقراطيون ولا نعرّف أنفسنا بأننا جزء من الإسلام السياسي”، مردفا “نريد أن يكون النشاط الديني مستقلا تماما عن النشاط السياسي، هذا أمر جيد للسياسيين؛ لأنهم لن يكونوا مستقبلا متهمين بتوظيف الدين لغايات سياسية، وهو جيد أيضا للدين حتى لا يكون رهن السياسة وموظفا من قبل السياسيين”.
وكان ملفتا ترحيب الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي بخطط النهضة للتخصص السياسي والفصل بين الجانب الديني والسياسي، دون اعتراض النهضة على تفسيره.
إذ قال “السبسي” في كلمة أمام مؤتمر النهضة “لا يفوتني أن أنوه بالتطور الذي عرفته حركة النهضة بقيادة الغنوشي الذي تجلى في ضرورة القطع بين الدعوي والسياسي وكذلك القطع مع احتكار الدين”، ووصف “النهضة” بأنها “لم تعد حزبا يمثل خطرا على الديمقراطية”.
وما زاد من نظرية ان الحركة تسعي بالفعل لفصل الديني عن السياسي، سبق تأكيد مؤسس ورئيس حركة النهضة الإسلامية التونسية، راشد الغنوشي، في حوار نشرته جريدة لوموند الفرنسية، أن حركته “سوف تخرج من الإسلام السياسي، بحيث يكون فصل الدعوي عن السياسي، والتحول إلى حزب مدني”.
لا علمانية
ولكن تأكيد الغنوشي في حواره مع لوموند أن “الاتجاه الآن نحو حزب يختص فقط في الأنشطة السياسية”، وأن “النهضة حزب سياسي، ديموقراطي ومدني، له مرجعية قيم حضارية مسلمة وحداثية”، أعاد طرح السؤال عما إذا كان الامر تطورا تكتيكي مع الأوضاع والتحديات الجديدة.
وقد ألمح لهذا “فاروق طيفور”، عضو المكتب الوطني لحركة “حمس” الجزائرية -إخوان مسلمون- المكلف بالشؤون السياسية، في تصريح لصحيفة “الخبر”، حيث فسر قرار النهضة بأنه “تجديد فكري وسياسي وتعاطي مع المرحلة الجديدة.
ووصف ما فعلته النهضة بأنه “ليس تحولا الي اللائكية (العلمانية) وإنما تجديد في صلاحية الإسلام كشريعة، والتمييز ما بين ما هو دعوي ديني، وبين ما هو سياسي حزبي، على اعتبار أننا نعيش في بلدان إسلامية”.
وأضاف: “أعتقد أن الحركة يهمها الفهم السائد عند الرأي العام، وليس سلوك الحركة الإسلامية، بالرغم من وجود بعض الأفكار والرؤى في الحركات الإسلامية التي لا تعتقد ما تعتقده حركة النهضة، في السياق العام للتطور الفكري للأمة، وهو ظاهرة صحية في الحركة الإسلامية”.
مشيرا لأن الصورة الإعلامية المرسومة حول الحركات الإسلامية عند الباحثين والمفكرين، وعند التيار العلماني، خاصة الذي يحكم البلدان العربية، هي “صورة مشوهة”.
ويؤيد 73 في المائة من التونسيين “فصل الدين عن السياسة”، حسب نتائج استطلاع أجراه معهد “سيغما” التونسي بالتعاون مع مؤسسة “كونراد أديناور” الألمانية و”المرصد العربي للأديان”.
ولا تثق أحزاب معارضة علمانية تونسية في تصريحات الغنوشي وقياديي حركة النهضة المتعلقة بتحويلها إلى حزب مدني بعد مؤتمرها العاشر، إذ تعتبر الحركة جزءا من جماعة الإخوان المسلمين، في حين تنفي النهضة ذلك باستمرار، وتقول إنها حزب تونسي ذو مرجعية إسلامية.
ويؤكد د. رفيق عبد السلام في مقال نشره على موقع حركة النهضة التونسية، على فيس بوك، نظرية عدم العلمانية في التطورات الاخيرة بقوله أن “ما هو مطروح اليوم على حركة النهضة، وهي تستشرف مؤتمرها العاشر هو النجاح في رهان التطوير والتجديد بما يستجيب لحاجيات البلاد وينفع الناس، وليس الدخول في سجالات ايديلوجية عقيمة، اذ الْوَاجِب يفرض دعم تمشي النهضويين في هذا الاتجاه الذي تحتاجه تونس، بدل التفنن في صنع الكوابح وبناء السواتر”.
ويضيف: “من الناحية العملية لا يوجد حزب تونسي فيما أعلم، يعرف نفسه بانه حزب عِلْماني، هذا إذا استثنينا حزب العمال الشيوعي في نسخته الاولى وقبل ان يتخلى عن صفة الشيوعي، والذي كان يتبنى علمانية عقائدية صلبة على طريقة بلاشفة روسيا، ومن قبله الحزب الشيوعي التونسي قبل انتقاله الى التجديد ثم المسار”.
وقال: “لا توجد وثيقة رسمية صادرة عن الحزب الدستوري في جيله الاول مع الشيخ عبد العزيز الثعالبي، او في طوره الجديد مع الحبيب بورقيبة يعرف نفسه بالعلماني، وقد رفض الرئيس السبسي نفسه، مؤسس حزب النداء، مرات كثيرة نعت حزبه بكونه علمانيا، وعبر من قبله السيد نجيب الشابي عن الموقف نفسه تقريبا، حينما كان يترأس الحزب الديمقراطي التقدمي قبل تحوّله للحزب الجمهوري، فلماذا هذا الاشتراط المسبق الذي يرفع في وجه النهضة؟”.
وشدد على ان “ما هو مطروح على حركة النهضة هو تعميق توجهها الحداثي ومزيد من الانفتاح على المحيط والطاقات التونسية في إطار حزب حداثي عصري ولكنه متجذر في الهوية العربية الاسلامية لتونس، وهذا هو المعنى الرئيسي للتواصل مع تراث المدرسة الإصلاحية التونسية”.
—-
نشر هذا المقال أساسًا في موقع إيوان24