مر عام ومازال كثيرون منا لا يستطيعون طرد الصورة من أذهانهم.
الصورة الواضحة لجيمس فولي، بوجهه ورأسه الحليقين، حافي القدمين، مكبل المعصمين خلف ظهره، راكعا على ركبتيه. يقف سيافه مقنعا، مرتديا ملابس سوداء بالكامل، حاملا سكينا يعكس نصلها أشعة الشمس. يتحدث كما أمروه ويتجهم. يستجمع ما يستطيع من الكرامة، لكن ليس هناك ما يتوفر منها. تظلم الشاشة تدريجيا، ثم تسطع تدريجيا على مشهد لجسد فولي ممددا على وجهه. المشهد التالي هو لسياف فولي يمسك بالأمريكي ستيفن سوتلوف، محذرا الرئيس الأمريكي باراك أوباما من أن هذا سوف يكون الضحية التالية.
في التاسع عشر من أغسطس يكون قد مر عام تماما منذ أن قامت داعش بنشر مقطع الفيديو الذي يظهر إعدام فولي على موقع يوتيوب. كان المقطع مطالبةً للولايات المتحدة بإيقاف ضرباتها الجوية ضد التنظيم خلال ملاحقته ليزيديي العراق في سنجار. استمرت الضربات الجوية الأمريكية دون انقطاع، كما فعل استعراض الرهائن، وعمليات الذبح، والتهديدات. بعد عام، يُحتمل أن الكثيرين منا قد نسوا الأسباب المحددة لتلك الرقصة المروعة من المطالبة والرفض. ما نتذكره جيدا، وبوضوحٍ كامل، هو وجوه الضحايا في النهاية.
استغرق صنع داعش سنوات، تورط أسلافها ومصمميها بشدة في موجات العنف الطائفي التي كادت تمزق العراق عدة مرات في الأعوام التي أعقبت الغزو ذا القيادة الأمريكية عام 2003. وقد كان قبل شهرين من تلك المقاطع أن أعلن تنظيم داعش نفسه خلافة (وهي مؤسسة الحكم السياسي الشرعي في الإسلام)، مطالبا بأن يعلن المؤمنون حول العالم الولاء لداعش و أبو بكر البغدادي، حاكمها. لكنها كانت مقاطع الذبح المصنوعة ببراعة تلك، والتي تم تداولها بلا نهاية وفي كل مكان عن طريق التكنولوجيات الرقمية، هي التي جعلت داعش اسما مألوفا.
كيف تعمل تلك المقاطع؟ لماذا صنعتها داعش؟ تماما مثل أمورٍ كثيرة تحيط بداعش، هناك ضوضاء أكثر بكثير من المعرفة تحيط بالأمر. يرجع هذا جزئيا إلى أن الكثير مازال مجهولا بشأن التنظيم. ولع التنظيم بقتل الصحفين وقوة آلته الإعلامية – البارعة في نشر وتعميم صورة بعينها– جعلوا من جمع معلوماتٍ محايدة وموثوقة حول التنظيم أمرا فائق الصعوبة. لكن ندرة المعلومات هنا لها علاقة أيضا بضباب الخبرة الاستراتيجية الذي يميل إلى التجمع حول أعمال العنف مثل تلك، محيطا معانيها وأهدافها بالغموض بقدر ما يوضح إياها.
استنتج الخبراء العسكريين وخبراء الأمن والإرهاب منذ وقتٍ طويل أن تلك المقاطع هي تكتيك، استراتيجية للحصول على نتائج معينة: ردع الضربات الجوية الأمريكية، وتجنيد مقاتلين جدد، وبث الرعب في قلوب الأعداء. بعبارةٍ أخرى، هناك إجماعٌ واضح على أن معنى وهدف تلك المقاطع يمكن فهمه في ضوء العلاقة بين الوسائل والغايات.
لكن هذا لا يقول شيئا عن لماذا كان العنف هنا مرتب، ومكتوب، ومؤدَّى بعنايةٍ شديدة. كما لا يقول الكثير عن كيف تعمل تلك المقاطع لتجنيد من؛ أو بأي طريقة، بالتحديد، “بث الرعب” وبين أي جمهور (سيتم ذكر المزيد حول هذا بالأسفل).
بالتأكيد فإن الكلمات التي يُجبر فولي وسوتلوف على قولها في تلك الدراما المتكلفة والمروعة هي حصرا حول الوسائل والغايات. وخوفا من أن لا ندرك الفكرة، فإن السياف يشرحها عدة مرات: القتل هو فعل للانتقام المباشر من الهجمات الأمريكية على داعش، والرهينة التالية هو وسيلة ضغط لجعلها تتوقف.
لكن بينما يلتزم الخطاب اللفظي بلغة الوسائل والغايات، فإن هناك أيضا خطابا بصريا يعمل هنا، وهو خطاب ينقل المعنى بالتوازي مع، وأحيانا مستقلا عن، الكلمات الملفوظة، وتعمل هذه على المشاهدين بشكلٍ مختلف عن أي حُجة أو حديث. وفي ذلك الخطاب البصري – ما يتم جعل الرهائن يقولوه ويفعلوه ويعانوه، ما هو وضع أجسادهم بينما هم أحياء وبينما هم أموات– يتم تفصيل معنى وأهمية عنف داعش بالكامل.
كل من تلك المقاطع هو أكثر بكثير من مجرد تسجيل لموتٍ عنيف. إنها عروض للعنف مكتوبة عمدا لإذلال الضحايا.
الأدوار في تلك الدراما المُتكشفة مؤداة بعناية. في المقطع الأول، يحدد السياف الرهانات الأكبر بكلماتٍ غير غامضة: مخاطبا أوباما مباشرةً – وملوحا بسكينه في لحظاتٍ غريبة التوقيت، يُعلم الرجل الذي سوف تسميه الصحافة “الجهادي جون” المشاهدين أن الولايات المتحدة لم تعد تحارب تمردا، وإنما دولة إسلامية شرعية، خلافة قَبِل بها المسلمون حول العالم. يعمل هذا كإعلانٍ لمكانةٍ متساوية بين الولايات المتحدة وداعش، ويصبح الأساس الذي يبني السياف عليه ليملي انقلابا للعلاقات السابقة للهيمنة والقوة.
تقول الكلمات الأخيرة التي أُجبر فولي على التفوه بها “أعتقد، في النهاية، أنني أتمنى لو لم أكن أمريكيا”، الكثير عن كيف تم أداء ذلك الانقلاب: هو وسوتلوف ليسا مجرد رهينتين مستهلكتين سيتم قتلهما في الوقت المناسب، ولكن تم تحويلهما إلى نماذج يصبح إذلالها إذلالا للأمة الأمريكية بالكامل. بعبارةٍ أخرى، يصبح هذان الرجلان الجهاز السياسي الأمريكي الذي يقع عليه حرفيا الإذلال الثأري.
للعنف الثأرى معنىً معين في الخطاب والكتابات الإسلامية المعاصرة: فهو ينبع من تعريفٍ للإذلال على أنه الفرض الجائر للعجز على الإسلام والمسلمين. يساوي ذلك التعريف للإذلال قلة الحيلة السياسية والاقتصادية مع تعرض نوعٍ معين من الوكالة الذكورية، وهي ذكورية مهيمنة تُفهم على أنها القدرة على الحماية والإعالة والسيطرة، للخطر.
لذلك الشعور بالضعف مصادر عديدة مختلفة. شكلت نسبة البطالة المرتفعة في العديد من البلدان ذات الأغلبية المسلمية تهديدا لقدرة الرجال على الزواج، والانخراط في علاقات جنسية مقبولة، وإعالة عائلاتهم. ثم هناك التحدي لأدوار الجنسين التقليدية الذي يشكله دخول النساء إلى سوق العمل، بجانب النشاط السياسي الواضح للنساء وزيادة القدرة على الوصول إلى التعليم العالي. أنتج القمع الوحشي للمعارضة أو الخلاف الداخلي من قِبَل الأنظمة السلطوية طويلا شعورا بالعجز السياسي، والنتائج المحبطة للثورات التي ترافقت مع “الربيع العربي” عمقت فقط الكثير من تلك الاحباطات.
وأخيرا يجتمع إرث الاستعمار، والدعم الأوروبي-الأمريكي طويل الأمد للأنظمة السلطوية، وضربات الطائرات بدون طيار، والاحتلال الإسرائيلي، وديناميكيات العولمة، معا لتكثف تصورات العجز الإسلامي في مقابل أمريكا وأوروبا. ذلك التصور يتم إحياءه باستمرار بواسطة تدفق صور أجساد المسلمين الدامية، والتي ينقلها نسق سريع النمو من إعلام الفيديو والإعلام الرقمي وإعلام الأقمار الصناعية.
إذن وبالتبعية، يعني الإذلال الثأري فرض العجز على هؤلاء الذين أذلوا الإسلام. يملي فعل ذلك وكالة ذكورية يُرى أنها ضرورية للدفاع عن الإسلام واستعادة قوة وعظمة المجتمع الإسلامي.
فكر في الرؤوس الحليقة للرجلين المأسورين، مرتدين ملابس برتقالية شبيهة بملابس السجن التي يرتديها نزلاء سجن خليج جوانتانامو. يركع الرجلان في أوضاع خضوع عند قدمي سيافهما، والذي يقف مرتفعا عنهما، مباعدا بين ساقيه، مقنعا، مرتديا الأسود من رأسه إلى أخمص قدميه. يُجبَر الرهينتان على استخدام آخر نفس لهما على الأرض في التحدث بكلمات قاتليهم؛ عيناهما فقط هي التي تلمِّح إلى ما تعرض له بالتأكيد كل رجلٌ منهما ليتبع النص، وليلعب الدور المحدد في مشهد قتله.
ثم، بدون مقدمة وبمراسم ضئيلة، هناك الحركة السريعة للقتل، الانتقال السريع للكاميرا إلى لجسد الممدد على وجهه، والذي تستقر الرأس المقطوعة فوقه؛ الانتقال البطيء الثابت إلى معصميه المكبلين، القدمين الحافيتين، الضعف المؤلم. الإظلام البطيء، ثم السطوع؛ يقبض القاتل الآن على ياقة الضحية الراكعة التالية، كما لو كان يمسك بحيوانٍ غير نظيف؛ التهديد والوعد بتكرار العرض الذي نعلم عناصره وطقوسه بالفعل.
يُعرض الضحيتين تكرارا وبالقوة: أسمائهم، وجوههم، خوفهم، عجزهم، وفي النهاية، جثثهم، جميعا حاضرة ليراها الجميع. في المقابل، تقريبا جميع الجوانب الشخصية لهوية السياف تم إخفائها بواسطة اللباس الأسود لداعش. هناك استثناء وحيد جدير بالذكر: لهجته البريطانية، والتي تحرم المشاهدين المتحدثين بالإنجليزية راحة رؤيته كأجنبي ثقافيا. كل ما يتبقى لرؤيته ومعرفته هو كونه ذكر، طوله، وضعه، ثباته، الأسلوب الصارم، والهدوء الواضح – بل والاعتيادية– التي يجلبها إلى الإعدام.
أظهرت الدراسات التي قام بها كُتاب مثل ديف جروسمان وراندال كولينز أنه من الأسهل بكثير القتل عن بُعد عبر الطائرات بدون طيار والقنابل عن القتل من مسافة قريبة وبدون بندقية – حيث ليس هناك مفر من توسلات وصرخات ضحيتك. تُقدم كل تلك التفاصيل مجتمعة “الجهادي جون” على أنه المقاتل الإسلامي الذكوري النموذجي. بالتبعية، فهي تقدم داعش ذاتها على أنها لا يمكن إيقافها، صلبة لا تعرف الخوف، مهيمنة – القوة الإسلامية النموذجية، والوحيدة الفعالة بما يكفي والذكورية بما يكفي لإركاع المذل العظيم على ركبتيه، حرفيا ورمزيا.
الفكرة هنا ليست تقييم ما إذا كانت بني الإذلال تلك شرعية أو دقيقة وإلى أي مدى هي كذلك. وإنما، الفكرة هي، في عالم المعنى الذي تشيده عروض العنف تلك، تعتمد فعالية المقطع على الصدى العاطفي بدلا من الحقيقة، ما يجعل أمور الدقة لا علاقة لها بالأمر تماما. يعني هذا أن قوة وتأثير مقاطع الذبح لم تكن مرتبطة أبدا بإنهاء الضربات الجوية الأمريكية (وهي نتيجة غير متوقعة على أي حال)، لكنها كانت دائما متعلقة بمدى نجاحها في تحقيق صدى لدى جمهورٍ معين أو إرعاب آخر.
ويتعلق هذا بكيفية عمل تلك العروض بمجرد أن تبدأ في السفر حول العالم عبر التكنولوجيات الرقمية، لأن التداول والتكرار اللا نهائيين لمقاطع الذبح تلك يتضمن فعليا إعادة تصور بصرية للعنف. يجعل هذا خوض تجربة مشاهدة الإذلال بالإنابة متاح لملايين الأشخاص كأنهم كانوا هناك، بل وبقدرٍ ما، الشعور بأنهم متورطين فيها.
على خلاف هدف “بث الرعب” غير المتبلور الذي يُنسب عادةً إلى داعش، يوفر تأثير خوض التجربة بالإنابة إدراكا لكيف ولماذا كانت وتظل تلك المقاطع مروعة بشكل خاص وصعبة المشاهدة بالنسبة للكثير من الأمريكيين. وهي أيضا تشير إلى لماذا وكيف تستمر في إيجاد صدى بين الرجال المسلمين المظلومين من قِبَل كلٍ من الأنماط التاريخية الكبيرة من الضعف والخبرات اليومية من العجز، والذين يشعرون أنهم ملزمون من قِبَل تصورٍ للذكورة الرجال فيه مسؤولين عن استعادة الإسلام والمجتمع الإسلامي إلى وضعه المستحق.
هذه ليست رصاصة فضية تشرح كل شيء – ليس هناك شيء كذلك. لكنها تساعد في شرح لماذا تساعد مقاطع الفيديو العنيفة لداعش مثل تلك في حشد مقاتلين جدد من أوروبا وأفريقيا وأمريكا الشمالية والشرق الأوسط.
وهي تلقي الضوء أيضا على الانتاج الأكثر مراوغة للدعم الرقمي لداعش بين هؤلاء الذين من المستبعد أن ينضموا إليها فعليا، والذين يطلق عليهم أحيانا “المتعاطفين الناعمين”. مثل هؤلاء المتعاطفين مسؤولين جزئيا عن النشر الواسع لدعاية داعش عبر، على سبيل المثال، قرصنة وسوم كأس العالم لإعادة تغريد مقاطع الذبح. بين إسلاميي الكنبة هؤلاء، تعمل تلك العروض تقريبا بنفس أسلوب الأفلام الإباحية: بتمثيل إخضاع العجز، فهي توفر فحولة بالإنابة والإثارة المتلصصة للعنف المثير دون الحاجة لتعريض أي شيء حقيقي للخطر.
بالنسبة للبعض بالطبع فإن الحديث عن “معنىً” و”هدف” مرتبطَين بمقاطع الذبح تلك هو بمثابة منح الأمر شرعية أكبر بكثير مما يستحق. بجادل الكثيرون بأن عنفا بذلك القدر من الترويع يشير إلى همجية أو سادية ليس لها هدف حقيقي أبعد من كونها هدفا بحد ذاتها، والتي تضع مرتكبيها خارج عالمي المنطق والإنسانية.
بالتأكيد هناك الكثير مما لازلنا لا نعلمه حول داعش. لكن بينما تقترب الذكرى السنوية الأولى لقفزهم إلى بؤرة الاهتمام العالمي، فهناك كمية لا بأس بها مختفية على مدى البصر.