تفجرت الأزمة الحالية حول البرنامج النووي والصاروخي الكوري الشمالي، لكي تجمع بين أطرافها، خيوطًا عديدة لأزمات وقضايا متنوعة، ترتبط في نهايتها بطرف واحد، وهو الصراع الراهن بين القوى الكبرى لإعادة رسم خريطة القوى العالمية.
فلا يمكن القبول بمنطق الصدفة فيما يتعلق بإقدام كوريا الشمالية – فجأةً – على كل هذه التجارب الصاروخية والنووية الصريحة، بل والتهديد صراحةً بقصف جزيرة “جوام” الأمريكية الإستراتيجية الواقعة في المحيط الهادي، وإطلاق صواريخ عبرت الأجواء اليابانية ذاتها.
كما لا يمكن قبول أن كوريا الشمالية الفقيرة ضعيفة الموارد أمام دولة بحجم الولايات المتحدة، يمكنها أن تخوض تحدٍّ مثل هذا، بمواردها الذاتية، وأمام خصم مخيف مثل الولايات المتحدة، استطاع بموارده الذاتية أن يهزم ألمانيا النازية في أوروبا والإمبراطورية اليابانية في آسيا، خلال الحرب العالمية الثانية، من دون أن تكون تتلقى دعمًا اقتصاديًّا وتقنيًّا، وكذلك ضمانات سياسية ودبلوماسية تضمن الأمن القومي للنظام الكوري الشمالي، بما في ذلك الدعم في مجلس الأمن، وتعطيل أية عقوبات جديدة جدية على كوريا الشمالية.
ولقد كان وصول الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض، بأجندته اليمينية المتطرفة، فرصة ذهبية لخصوم ومنافسي الولايات المتحدة في أقاليم العالم المختلفة، لاستغلال أجندته الصِّدَامية من أجل تحقيق منظومة من المستهدفات التي تتعلق في غالبها، تجاه محاصرة النفوذ الأمريكي، وإضعاف صورة الولايات المتحدة وهيمنتها الدولية.
وساهم في نجاح هذه الأطراف الطبيعة الشخصية للرئيس الأمريكي الأميَل إلى الاندفاع إلى درجة الحماقة بالمفهوم السياسي، أو عدم الرشادة.
أضف إلى ذلك حالة الاضطراب التي ترافق القرار الإستراتيجي الأمريكي، في ظل الارتباك الذي يرافق ترامب منذ وصوله إلى البيت الأبيض، فيما يتعلق بترتيب دولاب العمل الداخلي، والذي منعه من ترتيب أولوياته بشكل سليم، والعمل في هدوء على الملفات الأهم التي تخص الأمن القومي الأمريكي ومصالح الولايات المتحدة الحيوية في الداخل والخارج.
أدت عدم رشادة ترامب وصداماته المتكررة مع مؤسسات الدولة الأمريكية، بما في ذلك القضاء، وحلفاء ترامب الجمهوريين في الكونجرس، إلى المزيد من الإضعاف لقراراته التنفيذية، وتعطيل سياساته، إلى نتيجة سيئة على الأمن القومي الأمريكي، من زاوية مدى قدرة المؤسسات الإستراتيجية على العمل في إطار واحد منسجم، وسياسة واحدة متكاملة الرؤى والأهداف، وتتكامل أدواتها، بين الداخل والخارج.
والمتابع لسياسات الولايات المتحدة في المجال الداخلي والخارجي، والقرارات الأهم التي تبنتها بعض الإدارات والهيئات الأمريكية ذات الطابع السيادي، مثل الكونجرس ووزارة الدفاع ووزارة الخارجية؛ سوف يجد ملمحَيْن أساسيَّيْن.
الملمح الأول، هو التعارض في بعض الأحيان بين مواقف وسياسات بعضها البعض، وإن مالت دوائر الكونجرس إلى الاتساق مع دوائر وزارة الخارجية الأمريكية في الكثير من الأمور.
الملمح الثاني، هو تضارب سياسات ومواقف الكونجرس ووزارة الخارجية الأمريكية مع سياسات ومواقف الرئيس الأمريكي.
وبدا ذلك أكثر ما بدا، وبشكل صريح عبَّر عنه ترامب نفسه بسلسلة من التصريحات والمواقف، في أزمة العقوبات التي فرضها الكونجرس على روسيا، وفرضتها الخارجية الأمريكية على مصر، بحجب وإعادة توجيه ما يوازي حوالي 400 مليون دولار، معونات اقتصادية وعسكرية، بحسب مزاعم «سجل مصر الحقوقي».
في حالة العقوبات على روسيا، دخل ترامب في صدام صريح مع الكونجرس، وهدد باستخدام حق النقض الرئاسي ضد قرار الكونجرس بفرض عقوبات على روسيا، إلا أن الكونجرس هدد باستخدام صلاحيته الدستورية بإعادة مشروع القانون الذي أقره في 22 يوليو الماضي، إلى ترامب، وضم كلاًّ من إيران وكوريا الشمالية إلى مشروع القرار، من أجل إحراج ترامب، الذي انتقد القانون صراحة، وقال إنه يضر بمصالح الولايات المتحدة الحيوية، فيما يخص علاقاتها مع روسيا.
أما في حالة العقوبات التي فرضتها الخارجية الأمريكية على مصر، وأعلن عنها في 22 أغسطس الماضي؛ فإن ترامب بادر بالاتصال بنظيره المصري، عبد الفتاح السيسي، والإعراب له عن متانة العلاقات المصرية الأمريكية، والتعاون الأمني والعسكري الإستراتيجي بينهما.
وربما لم يبدُ هذا التناقض أو الارتباك صراحة بين ترامب والبنتاجون نظرًا لأن طبيعة عمل البنتاجون تتطلب بالضرورة، وفق الدستور الأمريكي، قرارات صريحة ومباشرة من الرئيس الأمريكي، ولا يمكن تحريك قوات أو إتمام صفقات سلاح من دون علمه.
المهم، ومن دون الاستغراق في كثير من التفاصيل في هذا الأمر؛ فإن هذه الأوضاع في الداخل الأمريكي، كان لها صدىً واسع وصل إلى أطراف العالم.. حتى شبه الجزيرة الكورية والشرق الأقصى نفسه، بجانب أوروبا، التي أعلنت عصيانها من قبل، عندما قالت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، إنه لم يعد بإمكان أوروبا الاعتماد على الولايات المتحدة، وأنه آن الأوان لكي تعتمد أوروبا على نفسها.
في هذا الإطار، تحاول هذه الورقة أن تنظر إلى خلفيات الأزمة الراهنة في شبه الجزيرة الكورية، وكيف حرَّك خصوم الولايات المتحدة الأزمة، من أجل تحقيق هدف إضعافها، ولاسيما أمام حلفائها، ومدى نجاح هذه السياسة.
———–
*أحمد التلاوي: باحث مصري في شئون التنمية السياسية، وكاتب أساسي في مركز سام للدراسات الإستراتيجية